تبدأ القصة من لقاء بين شخصين، أحدهما حي مجنون والآخر تاريخ غائب، هكذا يظهر كفعل السجود أمام آلهة.
تحادث (هيام) بحضورها الجنوني تمثال حافظ الأسد في ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية، تصفعه بعيونها وتجرده من سكينته وقسوته، مع التظاهر بالاحتفاظ بالقيمة الرمزية للتمثال أمام فرع الأمن، وفي لامبالاة مطلقة تطلق كلمتين:
“أي بحبك، والله بحبك وحياة كل شراميط الشاطىء بحبك”.
إن حركة الكلمات هذه أقوى من حركة أحجار الشطرنج، إذ أن هيام تخرج بكلامها تاريخا محدودا لهذه المدينة، تنتظم باتجاه العمق وتصدق بالقلب ما قد ترفضه بالعقل، حيث يكون المنبع الوحيد لسلوكها ولغتها هو الوجدان الخالص، وقد لا يتصور أنه من الممكن قول غير الحقيقة بهذا اللسان، ولتنتقل هيام لهذه الحالة يكفي أن تطلق العنان للثائر المجنون في داخلها، وهذا أسهل من شربة الماء.
تخرج للمدينة لتمزج تاريخ الشعراء والمجانين، لتعط الثقة للأمر الوحيد الذي عرفته، نضال الإنسان لأجل الكلمة، ولو كان جنونيا، لكنه من زاوية صلته بـ”الآخر” فهو نوع من التنافس، وتحد هذا الآخر وخصام للواقع، وتجسيد لغوي لعدة أوضاع اجتماعية يعطي بصيص أمل وطاقة مدهشة بمعزل عن سطوة الذهن الذي أوشك أن يفسد كل ماهو جميل. فهذا الجنون الذي تظهره هيام بقامتها القصيرة وثيابها التي تشبه ملابس الهيبيين، هو لغة وأسلوب قد يكون ضاحكا مازحا كما في الفكاهة والدعابة، ولكنه بالغالب هو تشفي يخرج من مضمار التورية إلى العلن، ليعتمد الفيضحة والمجون ويخلط بين الجد والهزل.
تحتك بكل المارة وكأنها تستضيفهم في بيتها، تلقي الشتائم يمينا شمالا، تعطي نصائح جنسية للأزواج، تهكم يباين الغريزة التي تريد شيئا واحدا فقط وتريده بعمق، تنهر بكل امرأة تتمايل في مشيتها، تمازح بائعي الخضار، تركب بعض الجمل والأغاني الارتجالية التي اعتاد الناس سماعها، حتى أن صوتها الذي فيه من الشجن مالايوصف، شكل حالة اجتماعية فريدة تثير الدهشة أكثر منه السخرية.
إن هذا الفحش والسب وبذاءة اللسان ليست بالأمر المذموم، إنها قاست فقدان أبنائها وسلب زوجها لهم، زوجها الذي لاشك بأنه شوه حياتها الجنسية فغدت ألفاظها وتعابيرها مرآة لماضيها. هيام كسرت بردة الفعل هذه جدار الحياء وأخلَت الأعراف من مضامينها، فالباعث الوحيد للكلام لديها لا يقصد الايذاء، إنه وجدان بائس ويتحلى بالشجاعة التي يبغاها المرء حتى يكون صادقا حقا.
فالمعجزة التي كانت مُنتظَرة مثلا قبل سنتين، للتهكم على تماثيل حافظ وهو يلوح بكفه كانت هيام سباقة به، حيث وسعت هذا الرمز مرارا وتكرار بتقريب المسافة وتحطيم إلوهية السلطة بالشتيمة، ولم تكف رغم تعرضها لكثير من المساءلات الأمنية والاعتقالات، لكنها كانت تعود في كل مرة حليقة الشعر مع مجنون آخر ليلقاها في أزقة المدينة وينضم إلى هذه الاحتفالية اللاشعورية.
هيام على مفارقة من الأمر، تفوق فيها الكذب الهادف أو أسمى حالات الصدق المشروط لدى الإنسان، لا تخادع أيا من المارة، وقلة الإمعان في الوعي والإسراف في اللاوعي جعلها جاهلة بمقاييس الخطأ والصواب لدى الناس حولها. فمن السهل عليها السخرية من عسكري إذ تقول له:
“روح قول لمعلمك الكبير أنا الهوى بنارو”،
أو فضح نفاق بعض المحلات التجارية، أو كلمات من شأنها أن تنال من حياء بعض النساء. وبتعبير آخر إن لسان هيام الذي لا يعرف التوقف لحظة والجميع في مرماه هو ليس بالضرورة ميوعة ولامبالاة، حيث إن الصمت الذي كان فضيلة صار آفة هذه الأيام، فالكلمة وسيلة لنشعر ونحب ونؤمن ونعمل، وأيضا إن الجنون الذي هو (إله الروح) كما يقولون أو إذا تمت إحالته للتمرد، فهو لغة بديلة للتعاليم والنظريات وغيرها من المفايهم الصلبة التي صارت مستهلكة وغير قابلة للتطبيق، صرنا نحتاج إلى أكثر من هيام في هذا الوقت.
بريد الموقع
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.