الصفحة الرئيسية / تجريب / عن منذر السوري
فسيفساء كاسيوبيا التدمرية

عن منذر السوري

أصرخ: أستطيع رؤية الجرذان بوضوحٍ ترقص من حولي على موسيقى “ريتشارد فاغنر”.

أتحدث مع الأنا في الخرابة، على الأقل أنا لست لاجئاً اقتصادياً لينظر الفرنسيون إلي كما يشاؤون، فهناك في كالي الفرنسية لا مكان للحديث بين السوريين عن ضربات التحالف الدولي لداعش، لا أحد مهتمٌ بخطة ديمتسورا، ولا بالانتهاكات الاسرائيلية المتكررة للسيادة السورية.

في مدينة كالي الصغيرة المطلة على بحر المانش نقطة عبور المهاجرين إلى بريطانيا عبر مينائها المعروف، يجري الحديث فقط عن الفرق بين ألمانيا والسويد، بين بريطانيا والنمسا، وعن الدنمارك والنرويج، فهنا وللمرة الأولى يحق للسوري القادم من إيطاليا أو اليونان سواء في البر أو البحر وماتيسر له من طرق غير شرعية، اختيار الوطن البديل، دون الانتظار على أبواب السفارات أو دون أن يطرح سؤال الهجرة الممل على موظف الأمم المتحدة.

يحق الآن للسوري الواصل حديثاً أن يختار بين تعلم اللغة الألمانية أو الدنماركية أو الذهاب بعيداً إلى أقصى الشمال والعيش مع الدببة القطبية، كما يحق للسوري الراغب بالبقاء في فرنسا فهم معاني كلمات الأغنية الفرنسية الشهيرة “غير جين لRegrette رين” للراحلة إديث بياف. ولا شيء يعوق الراغب بزيارة “سترادتفورد” مدينة شكسبير الجميلة سوى أخذ بصماته بإحدى دول العبور أو الانتظار والنوم متنقلاً بين الحدائق والخرابات الفرنسية.

من هنا تبدأ الرحلات الجديدة، رحلات تتصارع فيها الأفكار بعكسيّةٍ غريبةٍ، تتراوح بين نسيان رحلة الوصول إلى استحضار رحلة الخروج من سوريا إلى محاولة تذكر أو نسيان الحياة الفائتة بتفاصيلها وذكرياتها، والتأقلم مع البلد الجديد.

ففي كل يوم وقبل النوم على أنغام صوت جاره الكتالوني المزعج في شجاره مع زوجته من الطابق الثاني أمام الحائط الوحيد والمسقوف من حديقة بروكسل يبتسم منذر ابتسامة فيها بعض الأمل ثم يقول: اشتقت لشجاري الدائم مع زوجتي.

في اسطنبول-أكسراي كانت كلمات منذر الأخيرة في وداع أصحابه قبل خوضه غمار البحر: لا يوجد خيار أخر أمامي، كما يقول المهرب: داعش من ورائكم والنظام من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في بحر إيجه، ثم يسترسل ساخراً: من يتهيب ركوب البلم يعش أبد الدهر بين تركيا ولبنان.

منذر المكتئب دائماً يخرج عن صمته ويقول: في هذه البلاد لا مستقبل لأطفالنا لا نقدر على تربيتهم في هذه البيئة الاجتماعية المختلفة، حاولت جاهداً الحصول على فيزا لي ولعائلتي إلى احدى دول الخليج، لكن العبور إلى أوروبا كان أسهل.

أما عن قول منذر الواصل حديثاً إلى النمسا: في السيارة تحاول نسيان الأشياء الجميلة وتبحث عن أسوء لحظاتك الفائتة تبحث في ذهنك عن أكثر الأعمال صعوبة وأكثر المواقف الماضية حرجاً، لكي تهون مايجري لك بصحبة أربعين شخصاً في سيارة صغيرة ومغلقة، في أحسن الأحوال مقبرة جماعية متنقلة، تَشتُم القيادة الحكيمة وطمع المهرب الذي كاد أن يقتلك، لولا أن الشرطة الألبانية فتحت لنا باب الكابوس وقبضت ثمننا لكنا مجرد عنوان خبري في بعض المواقع والصحف العربية.

يبدأ منذر بسرد قصة صديقه ويقول: منذر دخل إلى هولندا وبعد أربعة شهور عاد إلى سوريا لم تعجبه أوروبا، خالجه شعور الحنين للبراميل فدُفن في بلاده.

جميع الشباب تصمت فيصير الصمت المرير وحده رابطاً مشتركاً بين خمسة سوريين يجلسون في غرفة الطعام لكامب لجوء في السويد بإنتظار موعد الغداء.

ينظر منذر إليهم من بعيد مخاطباً نفسه: هم ليسوا بمشهورين ولا بمعارضين معروفين ليس لهم أقارب هنا أو عائلة أتت بطلبهم للجوء، كان لديهم بعض المال فقامروا به على حياتهم،  هم هنا لأن ملاك الموت في براري أوروبا الشرقية والمتوسط تركهم يعبرون بسلام. هم الآن ليسوا سعداء، ولكنهم أحياء.

يجلس منذر على حافة الرصيف أمام المحطة مراقباً لساعاتٍ طويلةٍ بعض الفتية الذين يمارسون هوايتهم بتنطيط كرة القدم باحترافٍ كلَّ مساءٍ في بهو المحطّة، ويقول: نتعلق دائما بتخيّل الأشياء الجميلة، كنت دائماً أتخيّل نفسي لاعب كرة قدم مشهورٍ تهتف الجماهير بإسمه، كنت دائماً أتخيل البلاد الأجنبية  أنها المكان الأجمل على وجه الأرض. أما الأن فلست لاعب كرة قدم وماذا سأقول عن هذه البلاد! بل أنا هنا بعون العفاريت والجن، حيث كرهني الموت فتركني أرحل، سبطانة الكلاشين الحموية الرديئة أخطأتني، مالت الرصاصات عني، ابتعدت عن كآبتي، لم أصلح كطعام للأسماك، هربت الغابات مني، بقدرة قادر أرى نفسي هنا!

عن سؤال موظفة اللجوء في الدنمارك لمنذر؛ كيف خرجت من بلدك ووصلت إلى هنا؟ يقف منذر الواصل حديثاً، مع آخرٍ أمام سيارة للشرطة الفرنسية في كالي مندهشاً، بعد أن تخلص من اضطراب ما بعد الصدمة ونجا خوفه من رجال السلطة بأشكالهم، فيسأل: لماذا الشرطة الفرنسية تغض الطرف عن السوريين، وكأنها لا تراهم؟ فيرد منذر: هذه فرنسا لا ترى النظام وجرائمه منذ بداية الأحداث، (بس شاطرة بالحكي) هنا أيضاً الشرطة في كالي لا تراك إلا عندما تريد أن تراك، بالأمس قطعت أصبع شاب سوري، علقت بالسور وهو يحاول القفز إلى الميناء، فتركه الفرنسيون يعبر إلى الضفة الأخرى. بينما أصبعه ظلت معلقة على الشريط الحديدي، إصبعٌ سوريةٌ تقطر منها بضع قطراتٍ من الدّمِ مرفوعةٌ في وجه السماء.

بينما يمشيان بخطواتٍ هادئةٍ في الشارع الأحمر المشهور من الناحية الشمالية لبروكسل أمام واجهة زجاجية لدكان من بين دكاكين كثيرة تبيع الهوى، خلفها فتاة مثيرة ينبعث من جسدها الممشوق روائح الحياة بنعيمها وجحيمها، لا تحرك غرائزهما، يبدوان كمخصيان من عصر الإمبراطورية الصينية مخلصان لهجرتهما أكثر من بلقانيان يخدمان البلاط العثماني، قبل أن يعبرا الشارع يقول منذر لصديقه: هل تعلم أن بلجيكا صاحبة السعادة هي الدولة الأوروبية التي ترسل لنا العدد الاكبر من مقاتلي داعش نسبة لعدد سكانها! فعندما كنت أدخن بالباحة الخلفية لنزل اللاجئين في انكلترا صادفت موظف انكليزي يعمل لوزارة الداخلية، فسألني عن داعش مستفسراً؛ فضحكتُ فجأةً وضحكَ الموظف! واستمريت ضاحكاً حد البكاء، فوعدني ألا يسألني مرة أخرى.

في المدينة الأبدية عاصمة العالم روما، أخال نفسي كتمثال داوود عارياً فيما الجميع يبدون إعجابهم بعورتي المنحوتة بدقة، فأنا الذي عبرت المتوسط من ليبيا وهربت من مركز الاحتجاز الايطالي قبل أن يأخذوا بصماتي، فكيف ليومٍ واحدٍ أن يكفي لملءِ شواغر نفسي بالنظر إلى روما وإن كنت سائحاً غير شرعيٍّ، بينما أفكر أي تمثال هذا الذي يصبر على الوقوف هكذا أكثر من 500 سنة؟ بالطبع لكانت اعتقلته المخابرات السورية من أجل منع التجمهر حوله، وإن لم يحصل لكانت غيرة تمثال الخالد حتماً ستحبسه في متحف دمشق الدولي، ستستفز عورته بقايا العصبيات القديمة يوم تحطم تمثالا آساف ونائلة، وسيقوم أبو قتادة على إيقاع أناشيد الصارم بتحطيمه ليغدو التمثال خبراً أولاً في نشرات الأخبار، يستفزّ مشاعر العالم.

لكن لا ينبغي أن أفوت موعد رحلتي مساء صوب نيس الفرنسية،عبر قطار القدري الأوروبي الفاخر.

إنني في مالمو دون أن يشعر بي الألمان، أستطيع الآن أن أحفر شاهدة سفري على هذه الشجرة العجوز، وليعلم الجميع، أنني أنا منذر الفاتح، فاتح أوروبا الحديثة كاسر المعابر وخارق الحدود، أتيت إلى هنا لأعيش مع الأوروبيين أجواء عيد الميلاد.

لست “نفراً” ولا أحاول القيام بأعمالٍ عظيمةٍ ليبقى إسمي خالداً كالملك جلجامش، أستطيع فعل ذلك دون الاستعانة بالمهرب التي لم تعد سطوة شخصيته تؤثر بي كما لو كان فيتو كورليوني، فهمت اللعبة جيداً بعد أن تعاملت مع أربعة مهربين خدعوني، أتفقد هاتفي المحمول وبطاريته الاحتياطية، وأتأكد أنني لم أنسَ أن أخفي بملابسي الداخلية شهادة “البكالوريا” وصورة لمارلين مونرو شبه عارية وجدتها في درج خزانة غرفتي بالكامب الصربي، فهدفي معقول بين الوصول أو الموت وبكلا الحالتين الخلاص، مهما كانت النتائج، سأسلك هذه الحدود التي سلكها من قبلي العم جو غازياً بجيشه الأحمر بلاد السلاف، لست مهتماً بتساقط الثلوج ولا بغضب الهنغارييين وإن أحبطوا هجومي وقبضوا أتعابهم من مفوضية اللاجئين، خلاصي وحده الأهم، لا شهوةٌ تعتمر جسدي الضعيف سوى الركض عبر السهول العظيمة نحو حدود هنغارية الممتلئة بأشجار التائهين أشجار التفاح المبارك، فالعالم لن يكون نفسه عندما أعبر تلك الحدود.

كلما اشتدت الحرب زادت تكاليف السفر وطمع تجار البشر، فدخول داعش على الخط مثلاً دفع الكثير من أبناء الوسط والشمال السوري، إلى التفكير بالهجرة إلى أوروبا، فالقرى والمناطق الحدوية البعيدة، المستقرة والآمنة إلى حدٍّ ما، التي لم يصل إليها القصف والدمار ولم تشهد أتون حربٍ حقيقية، وصلت إليها داعش وأجبرت معظم شبابها على الهجرة خارج الحدود، غير أن حملات النظام الأخيرة لسوق المتخلفين عن الخدمة العسكرية، جعلت من الهجرة حالة فوضى جماعية فلم تعد الهجرة مقتصرة ًعلى أبناء المدن المنكوبة، صار للمهاجرين أسبابهم العديدة، منهم من يملك المال ومنهم لا يملك سوى الأمل، كمنذر صاحب الوجه المألوف للكنترول اليوناني يكاد أن ييأس، ففي كل مرة قبل أن يشهر هويته الإيطالية المزورة، يقول له الموظف اليوناني قف قرب الحائط ، فالدهر لم يشفِ غليله بَعدُ من أبناء القدس واليرموك، ثم يقول له: أنت من سوريا أعرف، فيرد منذر: أي خيا فلسطيني سوري، ويرحل، ليصل منذر السوري إلى الجزائر محاولاً مجابهة الصحراء طمعاً بالدخول إلى ليبيا، وحين تطأ قدماه  أرض تلك البلاد، قبل أن يحاول امتطاء المتوسط، يقول الحمد لله وصلت إلى ليبيا.

بلاد العرب أوطاني ومنفذي إلى أوروبا، منذر في بلاد الله الواسعة، يجلس في المقهى الرخيص بانتظار المهرب ويقول: في تركيا ما من أحد غير الله سيساعدك بالعيش والاستقرار فيها، أستحق العيش في ألمانيا، ليست تلك العبارة التي تظهر في تطبيقات الحظ على مواقع التواصل بل بصمة إيطاليا هي التي جعلتني أبتعد عن أخي منذر اللاجئ في النرويج، لكن كما يقول المثل المشهور: “وين بتاخذ مساعدات وأوراق إلزق”، ولكني كرهت اليونان كثيراً وبتُّ أشعر أن اليونانيين ليسوا من الطائفة الأوروبية فهم يحبطون جميع محاولاتي بالعبور.

 يضحك منذر عند خروجه من مقابلته الأولى في هولندا، ويقول لصديقه: بعد أن أعادوا سؤالي مرتين عن طريقة الوصول، تخيلت نفسي أحاول السفر عبر مطار دولة عربية، فيقاطعه صديقه: بالتأكيد لكان اصطحبك عنصر الأمن العربي وأخرجك من الباب الخلفي للمطار وقال لك حظاً أوفر في المحاولة القادمة، فالطيور إن هاجرت، تهاجر وراء الشمس إلا هجرة بني البشر تعاكس الشمس، ومن عاكس الشمس كفر، وإن كنت خارجاً من الشمال السوري اترك لحيتك تعيش طويلاً واحفظ بعض الأحاديث الشريفة والآيات الكريمة ولا تنسى قوله تعالى “وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون “، وستصل سالما بعون الله إلى تركيا، لكن ذلك لن ينفع إذا كنت خارجاً صوب لبنان، إن لم يكن حظّك جيداً، وتم اعتقالك، ربما ستكسب الشهادة في سبيل الله في هذه الحالة ولكن تذكر الحديث “إنما الأعمال بالنيات”، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ومن كرم بشهادة البكلوريا دخل كلية الطب، ومن تخرج من كلية الطب في سوريا فهو آمن اجتماعياً، وذلك لا يعني أن تمارس مهنتك علينا في بلاد اللجوء، فهنا يوجد تأمين صحي للجميع.، جزءٌ من محاضرةٍ عن التكيّف الاجتماعي، ألقاها منذر على مسامع طبيبٍ سوريٍّ يتأفّف في أحد مراكز اللجوء.

أما منذر الواصل حديثا إلى ألمانيا، فيقول: واجهت مشاكل نفسيةً عديدة، ورغباتٍ غريبةً قبل مجيئي إلى هنا، كرغبتي بجعل الراين ينبع من أزمير، وأن أمسك الحدود الالمانية بيدي وأجعلها محاذية لمقدونيا. آه كم وددت أن أكون ناجي من قوارب الموت أنظر إلى خفر السواحر الإيطالي يقترب مني، يحاول انقاذي، أريد أن أشعر بأن أحدا ما يعبأ لحياتي لو لمرة واحدة. يقول منذر بعد سنتين في سويسرا: لم أكن أفكر سوى بالوصول والاستقرار. واليوم لا أفكر بشئٍ، فقط اشتاق لا أعرف لماذا؟

يتصل منذر بالمهرب ويقول له: سمعت أن أوروبا مميزة أوقات الأعياد وابنتي الصغيرة تحب اللعب بالثلج واقتنعت زوجتي أخيراً بالسفر إلى أوروبا بعد انقطاع ابني عن الدراسة لعامين. كم ستكلفني الرحلة أنا وزوجتي والأولاد؟ كما تقول الكاتبة الانكليزية جين أوستن، نحن لا نعاني بالصدفة.

منذر السوري الصغير كبر خلال أربعة أعوامٍ، يستعد للخروج من جحيم الوطن إلى جنة اللامكان، سبقه الكثير من المناذرة، فتحوا الدروب المغلقة في البحر والجو والغابات شقوا الطرق العصية بأجسادهم، وهو يستعد ليلحق بهم، سيشاهد بعض قبورٍ مصنوعةٍ على عجل على جانبي الطريق .. لقد مرّ السوري من هنا.

صار لنا مقامات في كل بلاد العالم ومن حقنا أن نطالب بحماية عتباتنا المقدسة.

 

عن محمد شبيب

محمد شبيب
كاتب سوري يدرس في كلية الإعلام, ينشر في الصحافة الالكترونية.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.