الصورة من فيلم "الحائط" للمخرجين آلان باركر وجيرالد سكارف

شُرفَةْ

.

الكلبُ سجينْ
السّيدةُ عجوزٌ بدينةٌ مثّاقلةُ الخُطى
كلَّ ليلةٍ بعد مُنتصفها تنزلُ بهِ إلى حديقةٍ أسفلَ المبنى المقابلْ
يتبوّلَ في مكانهِ المعتادِ، بعد شمِّ رائحةِ الأرضِ كمّا كلَّ مرةْ
لابدَّ هو يحفظُ المكانَ، مكانَ التبولْ لكنَّها الحيواناتُ على خلافنا ربما، لم تخسرْ بعدُ لذّةَ الشكِ حتى بالغريزياتْ
يتشقلبُ قليلاً على العشبْ
يحكُ ظهرهُ بالشجرةْ
يمشي، حينَ يمشي قليلاً، ببطءٍ مع أنّهُ فتيٌّ
لكنَّ خَطوَهُ اعتادَ خَطوَ صاحبَتِه العجوزْ
بقعةٌ من الضوء خفيفةٌ أمام مدخلِ المبنى من فانوسٍ معلّقٍ على قوسٍ اسمنتيٍّ بطولِ مترينِ ونيّفْ
مكتوبٌ على القوسِ اسمُ المبنى، اسمٌ أنثويٌّ غالباً “Frontena”
زنّارٌ من الزهورِ الاصطناعيةِ يحيطُ القوسَ على خطِّ دائرةِ الضوءْ
في بقعةِ الضوءِ تلكَ اعتادَ الكلبُ التبوّلَ
ربما هو يدركُ أنّ الزهورَ غيرُ حيّةْ
ربما يعترضُ على نمطِ الحياةَ هذا بأكمَله
أو ربّما يظنّها متَصلبةً من العطشِ يسقيها ببولهْ
لا ينبحُ، لم أسمعهُ مرّةً ينبحْ
صامتٌ كشيخوخةِ صاحبتهْ
يرعَى سنواتها الأخيرةَ بقليلِ سنواتهْ
قديسٌ هو كأيِّ كلبْ
لا شيءَ خاصَ فيهِ أو فيَّ ، سوى أنّنا تَجاورنا السّكنةْ
وأنّي مثلهُ سجينٌ ملولٌ في رتابةِ النهارْ
أخرجُ للتنفسِ قليلاً بعد منتصفِ كلّ ليلْ
أجرُّ عجوزاً يحتضرُ في داخلي
باستثناء السبت والأحدْ
الشارعُ فارغٌ في أيّامِ الأسبوعِ كّلها،
الباصُ فقطْ يشّقُ جدارَ هذا السّكونِ الليليّ بجعيرهْ
في جوفهِ ركابٌ قلّة
يقفُ عند موقفٍ أسفلَ المبنى
ينفتحُ بابٌ في منتصفهِ، مترافقاً مع ضوءٍ صغيرٍ أسفلَ البابِ ينير مساحةِ وَطءِ أقدامِ المترجّلينَ منهْ
لا أنوارَ في الشارعِ سوى عيونُ إشاراتِ المرورِ تغمزُ كل قليلٍ ألوانها
ينزلُ من البابِ عادةً شابٌّ في نهاية عشريناتهِ
يرتدي زيَّاً هندياً، أو بدِّقةٍ أكثرَ بنطالَ جينزٍ سماويٍّ، قميصاً كحليّاً، وعمامةً سوداء من الزيِّ الشّعبي للهنودْ
بعدَ قليلٍ أراهُ في الشرفةِ المجاورةْ
يتكلّمُ مطوّلاً على هاتفِه النّقالْ
غالباً أهلهُ هناكَ في البعيدْ
الساعةُ تشيرُ إلى الواحدةِ بعدَ منتصفِ الليلِ هي إذاً قرابةَ العاشرة صباحاً عندهمْ
توّاً استيقظوا، توّاً عادَ من عملهِ الليلي
يضحكُ قليلاً وأحياناً يغصُّ صوتهُ برجفةٍ أظنها عجزُ الحنينِ
تأتيهِ ربما، إذ صوت أمه يتلوّى من الجانب الآخر للمكالمةْ، للأرضْ
الهواءُ شديدٌ ويَصْفُرْ
الغيومُ تهرولِ هرولةً
ترشُّ المطرَ رشّاً خفيفاً
دقيقتينَ على الأكثرِ فوق كلِ مبنى تحتَ مَسارها
يدخلُ الشّابُ
يعمُّ الصمتُ مجدداً
بعض الدّراجينَ يمرون بدرجاتٍ هوائيةٍ أو ناريّةْ
الصمتُ ثانيةً
ثمَّ صفيرٌ قويٌ ذو ذبذبةٍ تتصاعدُ وتهبطُ، يصدرُ كلَّ برهةِ صمتٍ من الصّنوبرةِ القريبةْ
إنها الدّبابيرُ تُغني
هناكَ عدّةُ أعشاشٍ لها بينَ ضفائرِ الصنوبرةْ
جوقةٌ هائجةْ
جوقةٌ تقرعُ طبولَ الحربْ
جوقةٌ تستطيعُ قتلَ عدة كائناتٍ إن اجتمعتْ عليها
لكنّها فقطْ ككلِّ الكائناتِ
يحلو لها أن ترفعَ غناءها عالياً في الليلْ
 

عن حسام ملحم

حسام ملحم
كاتب سوري

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.