صارَ رَجُلاً مُحصناً من المودةِ والأسى معاً، تعيساً كما هو حال جميع الرجال. منزليٌ مثل صحن، يسكنُ في وسط البلاد كما لو كان مرعوباً من الضفاف والهوامش من الشواطئ والتخوم القصوى أياً كان صِنفُها.. مُترددٌ، خشيةً أو لُطفاً، بسبب الاقتناع الحزين بأنه لم يكن يعني لأحدٍ جوهرياً سوى إزعاجٍ أو واجب..
في الصباح فتحَ عينيه، أشجارٌ كثيرةٌ ولدتْ هذه الليلة. هو ثابتٌ مثل أوتاد الأرض، يراقبُ المرآة ويفزع، خبأ وجهه كي لا يتسخ، ثم عاش وماتَ وبُعث مراتٍ، صار يحملُ تجاعيد وجهٍ ليس له، أما تجاعيده فلا وجه لها..
في الصباح أيضاً تذكرَ الفتاة التي غنتْ له: “زهريٌّ لوني وأبيض، جَميلٌ فمي وعيناي خضراوان”، تذكرَ يومَ زعمَ بأنه يستطيع أن يؤمن لها أي نوعٍ من العتمة تشاء وطلبتْ مِنهُ أن يُطفئ الشارع.. لأسباب كثيرة صار يكره الضوء والمصابيح. حين ماتَ أخر مرة رجعَ مذعوراً، رأى في القبرِ نوراً شديداً..
كتبَ الرسائل وأعادَ قراءتها، كُلَّ مرةٍ كان يختمُ رسالته بالتأكيد ذاته على أن هذه السطور هي أخر ما يسمح به لنفسه بهذه اللهجة، كان يجزمُ بأنه لن يُشفق بعد اليوم، سيكون قاسياً، في السطر التالي كان يتمنى السعادة للجميع، السعادة التامة لأشخاصٍ لا يتمنى لهم السعادة حقاً.
بعد أن ينتهي كان يشتمُ نفسه لأنه يكتب مثل أولئك الشعراء البليدين الذين يكتبون نثراً. أعترفَ بأن كتابة الرسائل تعويضٌ عن فشله في الشعر، بدايةً ظنَّ أن السبب هو ضعفُ خياله، كان مُقتنعاً بلا جدوى كلمة “جدار” ما لم يكن جِداراً بحق. حين قرأ في كِتابٍ قديم أن الشعر لا يحتاجُ مجازاتٍ مستحيلة فكرَ في أسبابٍ أخرى أكثر فيزيائية لفشله، انتهى إلى أن شكلَ جسده هو السبب، لو كان مفتول العضلات لكان شاعراً، لكان أقوى شاعرٍ على الأرض، ولكتبوا على شاهدة قبره: “كان مفتول العضلات، يكتبُ شعراً، وكان يحبُّ الطويلة، فتاة الجامعة”..
لكنه رَجُلٌ ضعيفُ نشاطه العقلي مُتواصلٌ ومتأججٌ ومتقلب، غير ذي جدوى على الإطلاق، يُكثرُ القياسات العقيمة والتدقيقات الباطلة، ضجةُ منجمٍ في رأسه. يرغبُ كعالم أحياء بحصرِ تفاصيل العالم ضمن تصنيفاتٍ ثابتة، الفئران للقطط، بقيةُ العُمرِ للرؤية، السرائر للرب والمُعلناتُ لنا إلى الأبد..
هو نفسه كان يستغربُ دماغه، في الشارع يشعرُ بثقل في رأسه يُعاكسُ الجاذبية، في المدرسةِ يفشلُ في عدِّ أصابعه، وفي الجنازات دائماً كان يشعرُ بأن الميت يقرأ أفكارهُ أفضلَ مِنه..
ينهي الرسائل دون أن يُرسل. لا يُجيدُ الرقص أو النحت، يُربي يديه للأصدقاء، ولا أحد يمر.. يضعُ حصان الشطرنج العادي وسط الطاولة، بعينين مُغمضتين لا تنامان، ينتظرُ معه طرقةً على الباب..
رجلٌ ضعيف يعرفُ من حقائق العالم اسمه، مقطعان لفظيان ثقيلان، يطوقهما بالرمل والأرق، ينطقهما بصوتٍ خافت، لا شيء يتحرك.
… … … … … … … …
* الكلمات الأربعمئة المُستعملة أعلاه لوصف الرَجُل الضعيف مُقتبسةٌ من كُتبٌ وقصائد وأوراق غير مُترابطة، يُمكن العثور على بعضٍ منها بالبحث.
الصورة: مقطع من تشكيل لمروان قصاب باشي
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.