خالد السعيد
“انتقمْ أَكثر، أَيُها العالم
انتقمْ مِنّا، /نَحنُ/ ذُبابُكَ
فَلا تَستَحي
لا تُدر وَجهَكَ، اصفَعنا
ثِقلٌ عَلى الثِقَلينِ /نَحنُ/
لا يَنتَهي
فانتَقم مِنّا، حينَ /صَرنَا/
وُروُداً في حَديقَةِ الرّبِ
تُدَاسُ وتَنمَحي”
في انتظارِ المجزرة القادمة، أجلسُ قربَ شاشةِ الكمبيوتر أُفكرُ بالكلامِ الذي سأقولهُ وقتَ
الفراغْ ( وقتَ ما بَينَ مَجزرَتين).
أكتبُ كلاماً عن كلِّ شيءٍ خارجَ نطاقِ المجزرة، كي أُحافظَ على صِحتي النفسية ــــ قَلبي مثلَ شَاشاتِ التلفزة يُحاولُ تنبيهي قُبيلَ بثِ الفيديو أنَّ الصُورَ تَحملُ مَشاهدَ قاسيةـــــ كأنْ أكتبَ عن دورةِ حياةِ الذُباب وصِفاتِه الأحيائِية، كيفَ يتنَاسل وكيفَ يُداوي نَفسَه وكيفَ يموُت.
في انتظارِ المجزرة القادمة، أَنسى ضَحايا المجزرةِ السابقة، كيفَ تنَاسلوا وكيفَ أَنهم لَم يُعطُوا وقتاً وإنْ كانَ قصيراً كذلكَ الذي يُعطى في الملاعب ( فكثيراً ما تغيرتْ مَجرى النتَائج بينَ فريقين؛ فقط بالدقائقِ البدلِ الضَائعة) وقتاً يَتسنى لهم فيهِ تِلاوةَ الوصيةِ على الأَقل إذْ لا أَملَ في العودةِ إلى الحياة.
وأَعودُ لأَنسى تِلكَ التَفاصيل عن يومياتِ المجزرة، لكن لا أَنسى أبداً كيفَ مَاتوا نِياماً فَلا هُم استيقظوا ولا نَحنُ انتبَهنا.
بعدَ خان شيخون، كُلُّ ما أتَذكرهُ هو عَرباتِ رَشِّ المُبيدات التي كُنا نَلهثُ خَلفها حِينَ كانتْ تَزورُ شَوارعنا، كَيف كُنا نركضُ خَلف دُخانِها الأبيض، وكيفَ كُنا نَتخيلُ أَنفسنا وكَأننا نُصورُ فِيلماً وفي المَشهدِ الأخير نَختفي في ذاكَ الضبابِ الأبيضِ ثُم نَظهرُ قليلاً قليلاً.
منْ سُوءِ حَظنا أَننَا لم نَملك هَواتفَ نَقالةٍ نُوثقُ بِها تلكَ السعادة التي كانتْ تُزعِجُها أُمهاتنا بالشتمِ والصُراخ:
” لا تَتنفسوا ذَاكَ الهَواء يَا حَمقى
كيفَ لرِئَاتكم الصغيرة أنْ تَتحملَ هذا الدُخان الغَليظ ” ؟!.
ومِن حُسنِ حَظنا أننَا مَا زِلنا أحياءً بِرئةِ تَبلعُ كُلَّ الهواء، كُلَّ الهواء دُونَ أَن نُصابَ مثلاً:
(بسيلانٍ أنفي، دِماعُ عَيني شديد، احتِقانٌ بالطرقِ التنفسية، تَشنجٌ بالقصباتِ واقبضاضٌ في الحَدقةِ أو ارتفاعٌ في ضغطِ الدمِ وشلل عَضلي فتثبيطٌ في التنفسِ.. ودُونَ أنْ نَخرِجَ زَبداً أبيضَ) .
تماماً كما حصلَ في الغوظةِ الشرقية 2013 أو في خَان شيخون منذُ أيام..
ومن سُوءِ حظِ أَبطالِ المجازر من الغوظةِ إلى خَان شيخون إلى… رَغمَ أنهُم يُصورونَ ويُوثقونَ حيناً ويُنقلونَ على الهواءِ مُباشرةً حِيناً آخر، لكنِهم يتَلعثمونَ بتَنفسِ ذاكَ الهَواء، ومن سُوءِ حَظِ أُمهاتِهم أَنهنَّ لم يَجدنَ وقتاً ليصرُخنَ أو يُعنِفنَ أَبنائَهنَ عَتباً:
” لا تَتنفسوا.. لا تَتنفسوا هذا الهَواء العَدو..”
في انتظارِ المجزرة القادمة، أشُعرُ أَني ذُبابة/
نحنُ ذُبابك أَيها العَالم، نَسقطُ تمَاماً في مَشهدٍ مُماثلٍ لذبابِ مُدننَا الكثير، بعدَ حَملاتِ البلدية. أَذكرُ حِينها أَنَّ أَحداً لم يَحزن على أسرابٍ تَهوي، وأَذكرُ جَيداً أنَّ أحداً لم يُثبتْ لنَا رُؤيتهُ كيفَ هَوى الذُباب بِفعلِ المُبيد، إِلا أَنَّ الذُباب كانَ يَختفي.
ولم يَكن هُناكَ شُهودُ عَيانٍ على مَجازرِ الذُباب تَماماً كَما اليوم إِذ لا شَاهدَ عَيانٍ حَتى الآن يُثبتُ لحظَة سُقوطِنا عِندما امتلأت الرئاتِ بالغازاتِ السامة، لكننا اختَفينا.
وفي زَحمةِ التَؤيلاتِ عن مَصدرِ الغَاز إِنْ كَانَ مِنَ العَدو أوِ الأَخِ العَدو، هوتْ أسرابٌ منِ البَشرِ، بَينما يُفندُ البَعضُ قَائلاً :
“إِنها تَمثيلية، أَلمْ تَلحظوا أَنَّ الجَميع في الصورِ عُراتٌ يرَتدونَ “كليوتات” مُتشابه وجَميعها جديدٌ ونَظيف”!
حاولتُ كَثيراً فَهمَ طَواسين الحُسين بن مَنصور الحَلاج واستطعتُ أَن أَجدَ مَخارجَ للمَجازِ في طس الدائرة وطس النقطة، لكن حتى الآن لم أَستطع فَهمَ مَجاز مَنْ رَبطَ بينَ “الكليوتات” وبينَ مَنْ تَنفسَ مِن رِئةِ الشَام فَماتْ.
نعم، نحنُ ذُبابك أَيها العالم المُتمدن، وكُلُّ مَا في الأمر أنكَ رفعتَ قُبعتكَ احتراماً للضحية في دقيقةِ صَمتٍ بدأتْ مُنذُ سَبعِ سنِين ومَا زَالت مُستمرة…
اقباساتْ في زمنِ السارين:
-1-
لا تَتنفس/
سَوفَ تَعلم أَنَّ الشَهيق ليسَ أَخ الزَفير أو رَدّة فِعله.
-2-
لا تَتنفس/
الهواءُ العَدو، أَضَلَّ الفَتاة التي تَجلسُ قُربَ أُمِهَا عَنْ أُمها.
الهواءُ العَدو، أَدهَشَ الأخُرى لمّا مَسَّها الحَظُ وأَعلنَ نَجاتها.
“أنا عايشة.. أنا عايشة”
– 3-
لا تَتنفس/
تَنهدْ تَنهدْ تَنهدْ وانْسَ أَصلَ الشَهيقِ حَتى تَفيقْ
…….
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.