نائل حريري آخ من هذه الأشهر المقدسة في تاريخ سوريا… تلك التي فرزت الخطابات يوماً بيوم، وأكدت أن من لا يتفاعل ويغير من رؤيته مع تطور الأحداث سيبقى واقفاً في مكانه وحيداً
في ثنايا الأسبوع الماضي” بين جمعتين” تراوحت الآراء بين التقاتل على حقائق والتكهن بمتغيرات على الأراضي السورية في حماه. أهم الحقائق والبديهيات على الأرض كانت نقاطاً تناولتها سابقاً: (محمد المفلح، أحمد خالد عبد العزيز، ابراهيم قاشوش وآخرون، نصف مليون يزيدون أو ينقصون يوم الجمعة 3 حزيران) وبناءً على هذه الحقائق وصلنا النقاط ببعضها فاجتمعت القطع المستقيمة لتشكل سيناريو افتراضياً كان أقرب ما يمكن إلى المنطق: السماح بنصف مليونية أخرى أو التحول نحو المجزرة. تساءلت وشاركني كثيرون التساؤل فيما إذا كانت السلطات السورية تعي تماماً ما سيجره هذا السيناريو، وما إذا كانت ثمة طريقة لتفاديه
سأفترض “محقاً” أن السلطات السورية ليست غبية، وأنها لا تعمل بمعزل عما يجري (وإن كان عملها هذا يخضع لأجندة وأهداف تختلف عما نريده قليلاً أو كثيراً) وأنّ لديها أوراقاً كثيرة للخروج من المأزق لم تستعمل بعد. فهي ما زالت تعمل منذ البداية بمنطق شارع ضد شارع، ولم تدخل السياسة في اللعبة بعد.
الاحتمال الثالث الخفي يكمن في أن ما يقدّم عبر خطاب وليد المعلم هو منتج داخلي للشعب السوري غير معدّ للتصدير، وأنّ التصدير يتم لخطاب آخر من تحت الطاولة لا يمكن التكهن به ناهيك عن إعلانه. وللنظام السوري تاريخ سابق في مثل هذه التصريحاتمقتبس عن ما بعد 20 حزيران (2): الورقة التي سقطت من خطاب الرئيس الأسد
السفارة… في العمارة:
إحدى المتغيرات التي تضمنتها الأحداث كانت حضور السفير الأمريكي “روبرت فورد” إلى حماه في أوج الحراك الاجتماعي لها. وصول السفير الأمريكي يوم الخميس بقي معتماً عليه، وبقي يدور في فلك الافتراضات والشائعات. أما السلطات السورية بكافة أشكالها وتنويعاتها فلم يصدر عنها حرف واحد يوم الخميس، وتجاهلت الأمر وكأنه مسألة حرية شخصية لا علاقة له بمواقف الدولة داخلياً أو خارجياً. أغلب السوريين قضوا ليلة الجمعة وهم ينتظرون تعليقاً واحداً أو شرحاً أو توضيحاً رسمياً من السلطات السورية… لا شيء
حرب التصريحات
يوم الجمعة أطلقت سانا سيلاً من التصريحات من مصادر مختلفة. كان أبرزها وأكثرها أهميةً تصريح بثينة شعبان مستشارة رئيس الجمهورية. فقد ذكرت أولاً “أن وصول السفير إلى حماة أتى في لحظة محاولة أهل المدينة حل المشكلة!!” واستنتجت من ذلك “ أنه جاء لمنع حلها“” وأن السفير الأميركي لم يطلب إذنا بزيارة حماة وأن هذا “يشكل تصعيدا من قبل السفير الأميركي”. وتساءلت الدكتورة شعبان كيف وصل السفير الأميركي إلى حماة في مناطق يقطع طرقها المخربون والمشاغبون وحملة السلاح
كذلك أكدت وزارة الداخلية (وليس الخارجية) في بيان لها انها “تراقب عن كثب” أعمال الشغب والعنف التي تقوم بها بعض المجموعات التخريبية في مدينة حماة وتعمل على معالجتها وقد استغربت وصول السفير الأميركي إلى مدينة حماة بشكل يتعارض مع الاعراف الدبلوماسية رغم وجود الحواجز “التي يسيطر عليها المخربون”.
أما وزارة الخارجية الأمريكية فأكدت أن دمشق كانت على علم مسبق بالزيارة وان موكب الدبلوماسي الامريكي مر عبر الحواجز العسكريةبعد إخطار وزارة الدفاع السورية، واعتبرت اتهام دمشق للسفير بتشجيع المظاهرات بأنه “هراء
القطع الناقصة في الصور
قانونياً، سيارة السفير الأمريكي أرض أمريكية لا يجوز التعدي عليها أو التعرض لمن فيها (أما إيقافها على الحواجز فهو مسموح) إذ يحق لها التجول دون تصريح في نطاق 40 كيلومتراً حول السفارة فقط.
لم نسمع موقفاً لوزير الخارجية المعلم، ولم تغلق السفارة الأمريكية في دمشق ولم يطرد السفير الأمريكي رغم التعدي “السافر” الذي تم على سورية وذلك بحجة “شعرة معاوية” التي ذكرتها السيدة شعبان في مؤتمرها الصحفي
أكد السفير وجود حواجز عسكرية حول حماة (وهي موجودة فعلاً) فإذا كانت السلطات تنكر هذا فإذاً يوجد طريق مفتوح واحد على الأقل من وإلى حماه لكل من هب ودب.
لم تطلب السلطات السورية من السفير الأمريكي مغادرة حماه يوم الخميس، ولم تستنكر دخوله إلى حماه، وتعمدت تأجيل تصريحاتها إلى ما بعد صلاة الجمعة، أما الإعلام السوري فقد حمل العدّة والعتاد وانطلق يتناول الحدث وفق السيناريو المكتوب مسبقاً، ولم يكتف بالبهارات بل أضاف إليها “الكنتاكي” كذلك
السفير الفرنسي… بالصدفة البحتة
كي لا نتعب نفسنا في إعادة الأحداث مجدداً، يزداد السيناريو السابق تعقيداً وسخريةً حين نضربه في اثنين. لم يمرّ سفير واحد عبر الحواجز العسكرية بل اثنان، وكلاهما دخل دون علم السلطات السورية، وكلاهما لم يطرد خارج الأراضي السورية ولم تغلق سفارته. وكلاهما ينتقد النظام السوري. ويمكن إضافة أنهما يمثلان الدولتين الأساسيتين اللتين تناولهما وليد المعلم في خطابه مستاءاً ومطالباً إياهما بالتوقف عن التدخل في شؤون سوريا.الفرق الوحيد هو أن زيارة السفير الفرنسي مرت مرور الكرام. السلطات السورية بقيت صامتة وبقي التركيز على السفير الأمريكي وحده. وكأن السفير الفرنسي خرج في نزهة مع كلبه فالتقى نظيره الأمريكي بالصدفة
رائحة الكعكة
هكذا يا سادتي الكرام قررت السلطات السورية أن تعتمد السيناريو الثاني وهو عدم التصعيد الأمني. وحيث أن هذا الخيار يعني خروج نصف مليون متظاهر مرةً أخرى ضد النظام فقد تماشت السلطات السورية مع هذا الخيار واخترعت حدثاً إعلامياً ضخماً أخفى ضمن عباءته مئات الآلاف من المتظاهرين. كما أعاد إلى الشارع عبارات التخوين الوطني إلى أقصاها بعد أسابيع من مواويل الحوار الوطني التي كان يللقيها على أسماعنا
إذاً ثمّة صفقة تتم، وثمة كعكة تقتسم. ومع الوقت سينتظر كثيرون إغلاق سفارتين ضخمتين في سوريا. وستكشف أحداث الجمعة القادمة ما كان خافياً علينا في هذا الأسبوع. ستمرّ هذه الغيمة وتنقشع بعد أيام من التخبط، وتعود السلطات السورية إلى الود المتبادل مع السفارات المختلفة، أما حماه فلن يتغير وضعها كثيراً في الأسابيع القادمة إلا في حال قرر النظام أن يلعب إحدى أوراقه في كل أسبوع، طبعاً ثمة تغير أساسي نتوقعه وهو تعيين وليد أباظة محافظاً لحماه نظراً “لقوة شكيمته” وشخصيته الصلبة
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.