(1)
سأعرض أولاً لوجهة نظر عبّر عنها عدد من المثقفين السوريين فحواها:
من المفترض من حركة احتجاج شعبي “ثورة مدنية” أن تنطلق من الشوارع و الساحات العامة و المؤسسات المدنية كالجامعات و المصانع ..الخ. أي من فضاء عام , و ليس من فضاء ديني خاص كالمسجد و دور العبادة , يؤكد على ذلك أدونيس قائلا ً في حديثه لبرنامج روافد عبر قناة “العربية” :” هذه من أخطاء المعارضة. لا يجوز لمعارضة حقيقيَّة تريد بناء مجتمع جديد بقيم جديدة إلا أن تخرج من الساحات العامة، مضيفاً أن الكثرة الساحقة تخرج من المسجد باسم مطالب سياسية. ومتسائلاً: لماذا نخرج من الجامع لماذا لا نخرج من الكنيسة، لماذا لا نأتي إلى الساحات العامة ونخرج من ساحة البلد؟، الساحة رمز مشترك للشعب، لكن الجامع رمز خاص” و بناء عليه يقرّر أدونيس موقفه الشخصي من هذا الحراك الاحتجاجي السوري:”«لا يمكنني أن أنضم إلى تظاهرة سياسية تخرج من الجامع، لكن لا يمكن بالمقابل أيضاً أن تقابل هذه التظاهرات بالعنف والقتل».
و قد نشر موقع الكتروني سوري علماني التوجّه “موقع الحقيقة ” تحقيقاً صحفياً ملفتاً بتاريخ 26-3-2011 تحت عنوان: فضيحة سورية بامتياز: بخلاف تونس ومصر ، جميع التظاهرات الاحتجاجية تقريبا خرجت من المساجد!؟” جاء فيه: ” عدد الأشكال الاحتجاجية الذي سجلها الفريق 143 مظاهرة ، مابين كبيرة وصغيرة، وأربعة اعتصامات لمثقفين و نشطاء أمام مؤسسات رسمية مثل وزارة الداخلية والقصر العدلي. المفارقة الصادمة المذهلة كانت أن 134 تظاهرة وبؤرة احتجاجية من أصل 143 خرجت من المساجد ، و جميعها تقريبا أطلقت شعارات أو استخدمت رموزا دينية بشكل أو بآخر ( وهذا يختلف عن الشعارات الطائفية بالطبع ، فهذه لم يجر بحثها حنى الآن). ولدى مقارنة هذه الظاهرة بما جى في تونس أو مصر ، نكتشف أننا أمام فضيحة حقيقية لا تليق ببلد مثل سوريا” http://www.syriatruth.info/content/view/1768/36
و يضيف كاتب سوري آخر “نضال نعيسة” :” سحقاً لهذه الثورة الزائفة ولهؤلاء الثوار الزائفين ولكل من يطبل ويزمر لهم من إعلاميين وصحفيين وكتاب و” بلاشفة ” سوريين، و قندهاريين معروفين، ومرتزقة وإعلام رخيص متاجر بدماء وآمال وتطلعات الشعب السوري البطل.””شاهد عيان من اللاذقية- الحوار المتمدن – العدد: 3318 – 2011 / 3 / 27
(2)
تعقيبا على وجهة النظر التي سبق عرضها سأقف على ما يلي :
أولاً: طالما أن المجتمع السوري بمعظمه ذو مزاج متديّن لذلك أمر طبيعي أن يكون لأي حراك شعبي احتجاجي فيه طابع متديّن محافظ, و لكنّ – ربّما- هذا لا يُفسِّر بالمقارنة مع النموذجين الثوريين الأكثر مدنّية في تونس و مصر , حيث أن السوريين ليسو أكثر تديّنا أو أكثر محافظة من المصريين مثلا ً؟!
*
ثانياً: الاضطرار, فلكي ندرك أسباب هذه الظاهرة يجب التعرّف على وضع المجتمع السوري عقب أحداث العنف الدامي في الثمانينات من القرن الماضي و إلى ما قبل الحركة الاحتجاجية الراهنة: ففي ظل حالة الطوارئ و القبضة الأمنية المتحكّمة في شتى فعاليات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية , في ظل تقييد حق التظاهر أو التجمّع , و كذلك القيود على تداول المعلومات و التعبير عن الرأي , و هي قيود أكثر صرامة من مثيلتها في تونس و مصر و اليمن و عموم الدول العربيّة, كل ذلك جعل من الصعب جداً القيام بأي تجمّع خارج إطار المسجد أو تجمّعات متحكّم بها كالأعراس و المآتم و المباريات الرياضيّة.
لذلك تم الاستفادة من صلاة الجمعة كموعد – موحَّد الزمان و المكان- لانطلاق تظاهرات الحركة الاحتجاجية, فمن الصعوبة بمكان على أيٍّ كان منع صلاة الجمعة.
*
ثالثاً: من الإنصاف التأكيد على أن إرهاصات الحركة الاحتجاجية السورية بدأت بمظاهرات تضامن مع الشعب الليبي أمام السفارة الليبية قام بها نشطاء مدنيون “علمانيون” , و تلاها في 16-3-2011 اعتصام ضمّ أساساً عددا ً من المثقفين و النشطاء “العلمانيين” السوريين أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي , اعتقل ثمّ أفرج عنهم بعد ذلك نذكر منهم ” المفكّر طيب تيزيني- حسية عبد الرحمن- سهير أتاسي- سيرين خوري- كمال شيخو..” , و نجد كذلك مواكبة إعلامية و ثقافية مع مشاركة فعلية لمثقّفين و نشطاء “علمانيين” تم توقيف كثير منهم .
*
رابعاً: من الإنصاف كذلك التذكير بأن الطابع الأسبوعي المتقطّع المرتبط بيوم الجمعة للاحتجاجات في سوريا أخذ في التغيير بحيث لا يمر يوم دون وجود أحداث في هذا المكان أو ذاك, بما فيه اعتصامات و محاولات تظاهر تنطلق من حرم الجامعات . و للمقارنة إجرائياً بين إمكانية نجاح تظاهرة تنطلق من الجامعة و أخرى تنطلق من المسجد نجد سهولة الثانية مقارنة بالأولى , ففي الجامعة نحن أمام طلّاب مقيّدين و مُحتوين في مؤسسة مُتَحكّم بها جيدا من قبل السلطات, و طلّاب الجامعة عرضة لإجراءات رادعة أقلّها الفصل من الجامعة , و كذلك بالإضافة إلى أن مجتمع المصلّين قد يكون أكثر توحّدا من مجتمع الطلاب الجامعيين.
*
خامساً: أتفهّم هواجس فئات من المجتمع السوري بخوص إمكانيّة تحوّل حركة الاحتجاجات الشعبية باتجاه فئوي ” طائفي سنّي ” يستعيد التجربة الأخوانية في الثمانينات , و يمكن فهم تحفّظ الكثيرين منهم لكون المسجد و يوم الجمعة أضحيا عنوانين كبيرين لحركة الاحتجاج الشعبي الراهن في سوريا .
و هذه نقطة بالغة الحساسية يمكن النظر إليها آخذين بعين الاعتبار ما يلي:
*رغم أن معظم الاحتجاجات تنطلق من المساجد لكنّها لم تطرح شعارات طائفية و لم تجعل من الطائفية خطابا لها, بل نجد تركيزا على البعد الوطني ,و وحدة الشعب السوري, بل لقد تمَّ تسمية الجمعة الموافقة ل 22-4-2011 بيوم الجمعة العظيمة و هي رمز مسيحي تأكيدا على البعد الحضاري و الانفتاحي للحراك , و يمكن لأي متابع للأحداث تدقيق مئات مقاطع الفيديو المسجّلة من مختلف جغرافيا الوطن السوري و المتداولة على مواقع الفيس بوك ليتأكد من ذلك , و سأذكّر بالشعارات و الهتافات الأكثر حضوراً:” الله سوريا حرية و بس- واحد و احد واحد الشعب السوري واحد- الشعب و الجيش يد واحدة- الشعب يريد إسقاط النظام- لا علوية و لا سنّية بدنا وحدة وطنية- بالروح بالدم نفديك يا درعا- بالروح بالدم نفديك يا بانياس- اللي بيقتل شعبو خاين- العرب و الأكراد يد واحد..الخ”
*استلهام النموذج الحيوي للإسلام , الإسلام المنفتح اللا عنفي الوطني المجمّع لفئات الشعب السوري من المسلمين و غيرهم, و هنا ينبغي التذكير بالدور الذي لعبه المفكر الإسلامي جودت سعيد ” يمكن مراجعة وثيقة العهد الوطني للإطلاع ” و تلامذته كالدكتور محمد العمّار و ابنيه بشر و سعد جودت سعيد” …, و هذا النموذج من الإسلام يصلح كبديل حضاري عن الإسلام السلفي ,التكفيري, الاخواني التقليدي.
هذا النموذج الحيوي للإسلام نجد تعبيراته في شعارين تم رفعهما مظاهرات الحراك الاحتجاجي :
– لئن بسطت إليك يدك لتقتلني ما أنا باسط إليك يدي لأقتلك” آية قرآنية”
– متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” قول منسوب لعمر بن الخطاب”
*
سادساً: تسجّل وجود حالات قليلة تم فيها طرح شعارات طائفية , لا ينفي الطابع الوطني للحراك الشعبي , فهي ليست بالسمة العامة للحراك الاحتجاجي , فمن المستحيل ضبط حركة احتجاج شعبية ,فهؤلاء المتظاهرين نجد فيهم شتى أصناف المجتمع و أمزجته كالأحمق و ضيّق الأفق و المتعصّب ..الخ, و بالتأكيد يوجد نقيض هؤلاء كذلك ّ و الأخير هم الأعمّ للمتابع الموضوعي , و كذلك يجب عدم إغفال إمكانيّة وجود مندسّين بالفعل بين المتظاهرين ممن يقومونَ بطرح شعارات طائفية أو التحريض على العنف بهدف الإساءة إلى هذا الحراك الشعبي و التنفير منه , باختصار نحن لسنا أمام معادلة هندسية أو انضباط كتيبة عسكرية , بل نحن أمام حراك شعبي علينا تحمّله مع تطويق التأثيرات السلبية المُحتملة, عبر :
أوّلاً : ترصّد هكذا خطابات و سلوكيات عنصريّة و فضحها و مقاومتها بالوعي و الحوار.
ثانياً: فتح المجال الإعلامي أمام وسائل الإعلام العربية و الدولية لمتابعة و تغطية هذا الحراك الاحتجاجي , للتعرّف على طبيعة هذا الحراك أكثر و الاستغناء عن روايات شهود العيان و الإشاعات بأي اتجاه كانت و القال و القيل.
ثالثاً: فتح تحقيق شفّاف و علني و محايد حول أعمال التخريب و العنف الطائفي و المتسبّبين فيها , و لجمها بقوة القانون و محاسبة المتورّطين.
*
سابعاً: في الأسبوعين الأخيرين نجد امتداد الحراك الشعبي لمناطق جغرافية ذات تركيبات مذهبية متعدّدة ” سلمية- السويداء” و على مستوى النخب و المثقفين نجد أن المؤيدين لهذا الحراك الشعبي يعبّرون عن طيف سوري واسع و هذه نقطة ايجابية يجب أخذها بعين الاعتبار.
*
ثامناً: من الصعب إطلاق تصنيفات تقليدية من قبيل : “ماركسي- قومي سوري- قومي عربي- إسلامي- ليبرالي” على الحراك الاحتجاجي في سوريا, فنحن نتحدّث عن حراك ما قبل حزبي ” الحزب كتنظيم سياسي” بالمعنى السياسي, حراك يتبنّى مطالب سياسية عامة بمجملها تحظى بالتوافق , أي نحن أمام كتلة سريعة التحوّل غير مستقرة مفتوحة على احتمالات متعدّدة.
*
تاسعاً : من يتحفّظ على وجود حضور و ثمات دينية للحراك الاحتجاجي الشعبي, و يتخذ موقف رافض لهذا الحراك الاحتجاجي الشعبي بسبب الثمة الدينية
من الضروري عرض نقطتين:
النقطة الأولى: لماذا لا تأخذ التيارات الليبرالية أو الماركسية و القومية المبادرة و تتصدّر مشهد الحراك الاحتجاجي , عندئذ تكون منافسا بالمعنى الايجابي للحراك ذو المزاج الإسلامي. رغم إدراكي لعدم إمكانية ذلك لظروف موضوعية و ذاتية, و لكن هؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل بما معناه ” لا يعمل و لا يدع الناس تعمل”
النقطة الثانية: لماذا هذا الفيتو و التهميش لقطاعات عريضة من المجتمع السوري, أليس من الأفضل تقبُّل الناس , و من ثم التواصل و الحوار معهم كما همْ , كيف نستطيع بناء شراكة وطنية بهذه الذهنيّة , من يحلم بثورة مدنيّة ديمقراطية علمانية يفصّلها عند الخياط لن يجدها لا في سوريا و لا في غيرها, و حتى الصفة العلمانية المطلوبة في أي حراك سياسي هي صفة تصنعها التجربة و خصوصيتها ,فهناك علمانيات ديمقراطية و ليس علمانية ديمقراطية واحدة, القاسم المشترك الأصغر بينها الفصل بين السياسة و الدين و مرجعيّة حقوق الإنسان.
*
عاشراً : إن دخول قطاعات أخرى من المجتمع السوري خلال فترات قريبة , و انضمامهم للحراك الشعبي السوري, يعمل على طبعه بطابع الاعتدال و الوسطية , و بدون ذلك لن نحصل على إلا على وطنية منقوصة, و تزداد احتمالات الكارثة و و الفوضى والحرب الأهلية”لا قدّر الله” .
إحدى عشر : تشكِّل اللحظة الراهنة اختبار حقيقي للنخب العلمانية و المثقفين السوريين اختبار مصداقية دعاواهُم عن الحرية و الديمقراطية و الدولة المدنية, و الذين يتحفّظون على حضور بعد ديني في الحراك الشعبي عليهم قلب الموازين و المشاركة بحضور ذو بعد “علماني” وازن لتحقيق توازن ايجابي, أو ممارسة دورهم في تطوير صلاحيّات الحراك الاحتجاجي الشعبي بكشف السلبيات بغية تجاوزها , و التأكيد على الايجابيات و استشراف الآفاق الحيوية الممكنة.
و في الختام: آمل أن يوظّف ما عرضته في سياق مصالح ايجابيّة , تعمل على بناء وطنية سورية أكثر قوّة و شفافيّة, وطنيّة ذات طبيعة احتوائيّة , وطنيّة تجد تعبيراتها في سوريا دولة مدنيّة ديمقراطية واحدة لكلّ السوريين .
منقول عن موقع جدار
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.