الصفحة الرئيسية / تجريب / مقتطفات يومية – ٥

مقتطفات يومية – ٥

وائل قيس
خاص بدحنون

 

 

I

ربما.. وأقول ربما لأنه ربما وعن طريق الصدفة المحضة استطعت أن أنجو من التفجير الذي حصل بالقرب من جسر الحياة قبل أيام. أقول ربما لأنه عن طريق الصدفة المحضة أصبحت خارج البلاد، أسعى في أرض الله الواسعة في كل شيء، لكنها ضيقة علينا نحن السوريين، ضيقة لدرجة الضجر، والخوف. حيث كنتَ خارج أرضكَ عليكَ أن تتماهى مع وضعكَ الجديد، أنتَ إما مُهَجر، أو نازح، أو هارب من الموت، وأسلاك الاعتقال. ويَصح عليكَ أيضاً تسمية: الناجي من الموت العبثي. إذ أن ذاكَ الذي يوجه فوهة دباباته إلى المنازل، والقناص الذي يتربص بكَ على أحد الأسطح، يعبث بحياتكَ، والعبث هنا لا يعني بالضرورة ما يفعله الشاعر من عبث بمفردات اللغة، بل هو عبث ماجن، إذ أنه ومع كل قذيفة، أو طلقة تخرج منه يطلق ضحكةً قحباء. تلك الضحكة التي ليست إلا تعبيرٌ عن العجز، والهروب من القدر الذي يُرسم بعد سقوط كل قذيفة، أو تفجير عبوة ناسفة، وعدة براميل من الـ تي إن تي. من يملك كل تلك الجسارة..؟ من يملك كل تلك القسوة على العبث بمفرداتنا اليومية..؟ من يملك كل ذاك الحقد حتى يشوه تاريخنا..؟
المراحل المتطورة من ارتفاع وتيرة العنف ضد الشعب الأعزل، مرحلة التطور في استخدام العبوات الناسفة، ولاحقاً تكتشف أن الجيش الممانع يمتلك صواريخ سكود، كل تلك الأسلحة تجعلك تكتشف أن الحياة أبسط مما كانت. إنها المرحلة التي تقدم الحل الأمثل لتنهي حياتكَ بكثيرٍ من الحسرة، كأن تفخخ نفسكَ بعبوة ناسفة وتذهب لتُفجر نفسك مع حبيبتكَ. وتبقى تلك نهاية افتراضية لحياة كانت أبسط مما نحتمل.

II

في الشام لن يصيبكَ هوس التلوث، صحيح أن الطرق تزداد تَقطعاً، والحواجز تزداد شراسةً في سبيل الدفاع عن الوطن، والقضاء على المؤامرة الكونية. الطرق التي تشتهي سكانها، دمشق العصية على أي فعل أرعن، أصبحت تفوح منها روائح صواريخ السكود، أصبحت فارغة من الصور والذكريات. دمشق اليوم لم تعد: التكية السليمانية، مقتنيات المتحف “الوطني”، القوس الروماني، سوق البحصة، بوابة الصالحية، سوق الحميدية، الجامع الأموي، كنائس باب توما، دجل تجار الحريقة، أصوات الباعة الجوالين، مقاهي ساروجة، والعشاق.. العشاق.. العشاق أين ذهب العشاق..؟ أين ذهب صوت أمي..؟ أين ذهب حلفانها بأن ما يحصل مؤامرة..؟ كيف استطعنا أن نرمي كل شيء خلف ظهرنا ونرحل..؟ تلك الأرض أوسع مما نشتهي.. يكفي أنها تحوي شيئاً منكِ..
مثلاً..!

III

الفيديوهات المحملة من بستان القصر، القدود الحلبية، الرقص على أصوات الطبول، الخروج إلى أبواب الحرية، والأرض الحمراء. مظاهرات الباب المترافقة مع سقوط صواريخ السكود، مصدومون بالسكود، وحرائق جبل قاسيون، مصدومون بالموت المتفجر على أبواب الحرية، مصدومون بالحياة التي كانت بسيطة، كضحكتكِ في يوم من الأيام، مصدومون بالثلج، والمطر، والغياب، والخسارة، والرحيل، والألم، والفرح، سابقاً كتب محمد الماغوط: الفرح ليس مهنتي. مصدومون بكل شيء حتى صوت الضحية، وضحكة الجلاد. مصدومون بأنه مازال لدينا أمل. سابقاً كتب محمود درويش:نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،/ وما يفعلُ العاطلونَ عنِ العمَلْ/ نُرَبِّي الأمَلْ. مصدومون بلحظات صعود الروح، و هبوطها إلى دركها الأسفل من الحياة. مصدومون بكل أمل.. حتى أمل العودة من حيث بدئنا.

 

عن وائل قيس

وائل قيس
مواليد دمشق 1987 له ديوان شعر قيد الطبع، مقيم في اسطنبول.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.