هوزان شيخي، وجوه، دحنون، سوريا

وجوه..

هوزان شيخي

 

الثيابُ التي اشتراها الفقراء قبل أيام والسكاكر، مُحاولاتٌ لرأبِ صدعٍ في جِدارٍ هوى ورفعوه ثم هوى فرفعوه ثُم هوى فجربوا إصلاحه على الأرض وأخذ صورةٍ فوقه.. دارت القهوة، في بعض المناطق زار الجيران بعضهم وقبّلوا الوجنات، تجمُعات لأطفالٍ وأطباقُ حلويات تنتقلُ من يدٍ ليد، حتى أن العروس الجديدة شطحتْ في دورِها واستأذنت زوجها صباحاً لتزور قبر جدها.. شيءٌ يُشبه الحقيقة لدرجة صدقها المُمثلون، لكن الملامح، آثار القلبُ على الوجه، كانت غائمة، ولم تُميز ابتسامةً مِن غَصَّةِ مخنوق.
من بعيدٍ هطلت الأماني على الباقين، من وَردتهُ مُكالمةٌ بلّغَ السلامات للمنتظرين، ومن قرأ رسالةً ردَّ بأحسن مِنها إن استطاع.. رنّت جُملٌ نشفتْ لفرط ما كُررت “جمعاً في قادم الأعوام”، “إنشالله خير”، “بوجودكم”.. القائلون ما اكترثوا لفداحة التعابير والسامعون سهوّا أو تجاهلوا حُبّاً بالغائبين.. كان اتفاقاً مُضمراً على ألا يُفصحوا عن حُزنٍ. هُدنةُ الموتِ التي رُفضت، حورّت لتصير هُدنةً سكوت على ما حقَّ قوله. الأخُ الأصغرُ كان صريحاً بحلمه، لا طعم لشيء، صدأٌ يُغطي ما كان وجوهاً. و”لا غالب اليوم إلا الذي بكل جوارحه ينام”..
– وكيف الناس؟؟
– لا وجوه لهم.
بعد الرحلة الطويلة للطيور الثلاثين نكتشفُ إن المُراد لم يكن إلا نفسهم، لُعبةُ انعكاسٍ تتكررُ في قصص الصوفيين، وجهُ السيمرغ هو وجه كل طير، وما شقاء البحث إلا سُعيٌ وراءه. أينما تولّوا فثمّ وجه الله، مُبتغى الصالحين، ليس مثل وجوهنا لكنه الوجوه كُلُّها، هو الثواب والعِقاب، مُبدأ الأشياء ومنتهاها، على شكله خُلقِنا فُرادى ثم صرناه مُجتمعين. يؤمن الحروفيون كذلك إن كُل أعمال البشر في وجوههم، من يوم الولادة إلى الدفن. نقولُ “مكتوب ع الجبين” ولا نجيدُ قراءةً.. كُلُّ حدثٍ يترك أثراً ويمحي أثراً، إضافةٌ و نُقصان معاً، أعرفُ أرضاً -لشدةِ ما خاف أهلها- صارت وجوههم كُتلَ عجينٍ طرية تُشّكِلُها الأيام.
الصباحُ يُشبه كُل صباح، العالمون ميزوا بين أصوات مدافع الليلة الماضية. بداياتُ شتاءٍ سيكون الأقسى، وسيعتادون.. من عاش بلا ماء أياماً، من قرأ كتاباً دون شموع، من عرف الفُقدان، لن يخشى شتاءاً، وقد يَفرحُ لأسباب نجهلها. سيعيش، من ظلَّ حتى اليوم سيبقى، أقوى من الثلج هذي العظامُ. فارغاً في الصباح، ورقُ خريفٍ أصفر، أرددُ قولَ صديقٍ “ما من وجهٍ تركَ آثراً في المرآة”.
من بعيدٍ نحنُّ لأشياء لم نفعلها، فوضى الطُرقاتِ وتبادلُ التحايا، النقودُ التي يَدسُّها الأخوال في جيوب الأطفال، وصورةً مُقربةُ لوجوهٍ هي قوتُ الأعوام الاحقة.
الشوقُ وضيقُ اليد فتيلٌ للمُخيلة.. حين همَّ إبراهيم بذبح إسماعيل، من مِنهُما نَظر في وجه الآخر؟ في وجه من نظر الله وأشفق؟
لا إيمان هُنا، لم أحضر صلاةً، ولا شحذتُ سكيناً لأُضحي.. أملٌ ضئيل في نهارٍ مُبارك، كُثرةُ الغائبين، رعبٌ من النسيان، الأهلُ وغيرهم.. لأسباب عديدة مِنها عدمُ التفاتكِ، عن الوجوه في يوم العيد أتحدث.

 

 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.