من قبل أن تصاب صديقتي الحميمة بسرطان الثدي، أصبح لدي هاجس الفحص المبكر كبيرًا. فعندما شخّص كل الأطباء حالة التهاب مرارتي وحصواتها على أنها حالة نادرة بالنسبة لامرأة في أول الثلاثينات من عمرها وأنها عادة تصيب النساء مابعد الأربعين، بدأت أحسس على صدري.
اللحوم والفواكه التي وحده الله يعرف بماذا يحقنونها لتصل إلينا بالطائرات بمظهر جيد قبل أن تذبل وتموت، وبأي ورنيش يدهنونها، وبأي ماء يسقونها، وبأي تربة أو أقفاص يزرعونها وبأي بلاستيك يعلبونها! كلها من الأسباب التي جعلت أمراضًا جديدة تظهر باكرًا في الأجساد، خاصة وأن نسبة قليلة من الناس تستطيع أن تشتري أغذية طبيعية غالية الثمن. وقلة أقل تعرف أن هذه الأغذية التي يكتب عليها عبارة (أورغانيك)، أي مزروعة طبيعيًا بلا ظروف صناعية، قد لا تكون حقًا.. أورغانيك!هل من داع لأخبركم عن الأخبار التي تكسر الظهر وتمعس القلب وتسبب الاكتئاب الذي بدوره يتفتح أمراضا في الجسد؟!
إذًا نحن متفقون.. لم يعد أي شيء بعيدًا وآن أوان الحرص.
الوعي ومشاهدة أوبرا ودكتور أوز جعلتني أجمع صديقاتي المقربات منذ عدة سنوات وأقترح عليهن أن نذهب بربطة المعلم لنجري الفحص المبكر. لم يتقبل زوج صديقتي المنفتح جدا أن تذهب زوجته إلى طبيبٍ رجل ليتلمس صدرها! لذا اقتصر المشوار على ثلاثة منا أنا ورشا وهدلا. رشا بدافع الخوف من تاريخ سرطان وراثي بين نساء عائلتها، وهدلا بدافع الحرص، وأنا بدافع.. الوسواس. كانت نتيجة الفحص المبدئي سليمة، وشخصت الكتل لدى رشا بأكياس سوائل لا خطر منها!
منذ فترة كنت أتصفح الفيس بوك كالعادة على غير هدى فتعثرت عيناي بصورة لامرأة ترضع طفلها من ثدي بينما الآخر مُستأصَل. وبقدر ماتحمل هذه الصورة من ألم، كانت معبرة وطافحة بالأمومة والعطاء والحياة، فهل نقصت الصورة واحدًا من مفردات الأنوثة؟. ماذا أرادت الصورة أن تقول؟
أنجيلينا جولي حبيبتنا الحنونة، امرأة ذات جمال مختلف وجسد ملئ بالوشوم وشهرة واسعة وتاريخ سرطاني وراثي. المال الوفير جعلها تتجنب تطوّر إصابتها بمرض سرطان الثدي لأنها تحمل جين “BRCA1” أحد الجينات المتسبّبة في سرطان الثدي، فضلًا عن ورم سرطان المبيض، ما دفعها للمخاطرة والخضوع لعمليّة الإستئصال التي اعتبرتها الحلّ الوحيد. وبذلك وفرت على نفسها عشر سنوات من المعاناة مع السرطان كوالدتها التي توفيت عام 2007.وفي مقالها بنيويورك تايمز بعنوان “اختياري الطبي” كتبت: “حتى لا يخسرني أطفالي في سنّ مبكرة”.
هل سنحت لكم الفرصة لمعايشة أم في لحظات انتظارها لنتيجة فحص الميموغرام (جهاز أشعة الكشف عن أورام الثدي)؟
صديقتي سمارة بدأت بتوزيع ثروتها الصغيرة، فأوصت بصندوق ذهبها لأختها مقابل أن تقوم برعاية أولادها بعد وفاتها، لم تنم ولم تأكل لعدة أسابيع قبل أن تأتي النتيجة سلبًا، كانت قد أصيبت بسرطان الخوف الذي أكل روحها، قبل أن تطمئن باستلام نتيجة التشخيص الثانية بأن النتيجة الأولى كانت خاطئة وجسدها سليم مئة بالمئة! في المقابل عندما شُخّصت إصابة رشا بالمراحل الأولى للمرض، كان تصرفها مختلفًا تمامًا. كنت أشعر بكل ذرة ترتجف في جسدها، وهي تخبرني كيف تنشطت وتكاثرت الخلايا السرطانية الكامنة نتيجة سحب السوائل المحتبسة في صدرها، وعوضا عن أن تعاني من أكياس يمكن التعايش معها بلا ضرر حقيقي، أصبح عليها مواجهة شبح السرطان بكل بشاعته. لا يمكن أن تكون امرأة أكثر إدهاشًا عند تماسكها في موقف كهذا. كرمى لأولادها وبيتها وضيوفها وزعل أمها ومحيطها الاجتماعي. لقد تمتعت بروح محلقة أكثر من أي وقت مضى. إلى أن رافقتها قبل العملية للحقن بالسائل النووي الذي يلون مناطق الإصابة ليساعد الجراح أثناء الاستئصال. عندها فقط لم ننجح بكل النكات السخيفة التي تفوهنا بها أنا وجارتي روعة، التي رافقتنا منذ الصباح الباكر، للتخفيف من ارتعاشها مثل سراب في يوم قائظ الحرارة، وفي اللحظة التي سألتها:
– قولي لي ماذا تريدين، وسأحضره لك من عيوني؟.
– بدي أهلي، أمي وأخواتي.هربت من عينيها ومن قبضة يدها إلى خارج الغرفة وانهرت بجوار الحائط أبكي وأنشج بغضب.
كانت حمص المحاصرة تشتعل في عز الثورة، وفضَّلَتْ عدم إخبار أحد من أهلها لحين انتهاء العملية.
أما صافي فالتقيتها بعد أن نجت من الجراحة والعلاج بالكيماوي واستعادت شعرها عقب صيفٍ كاملٍ قضته تستر صلعتها بباروكة صناعية. وحدثتني عن معاناة خاصة، عادة لا تخرج من أسوار غرفة النوم ولا تتسرب من أسرار القلب إلا حين تصبح ورماً متقيحاً بحد ذاتها، وحديثاً ينزّ حزناً:
– زوجي لم يعد يرى أنوثتي، إنه لا يتودد إلي إلا في فترات متباعدة جدًا، وتحت إلحاح السؤال مني. وفي لحظة ممارسة الجماع، يتجنّب تمامًا، بعينيه ويديه، الاقتراب من مكان العملية والثدي السليم. أصبحت مرتبكة، ولم يبق من ثقتي بنفسي إلا تلك الواجهة الزجاجية المشعورة التي أخرج وراءها للناس. من أنا الآن، مضحية، مريضة، ناقصة. وكيف سأكمل حياتي بهذه المشاعر القاتلة؟
بالتأكيد لن يكون لدى أنجلينا جولي نفس هاجس صافي المرأة العاملة فقيرة الحال. فجولي تمتلك المال والقرار والمشاريع والشهرة واحترام المجتمع الدولي، ولربما يجتمع جراحو التجميل في العالم ليعوضوها بأغلى شريحتي سيليكون عما خسرته. تؤكد أنجلينا جولي بمقالها أن قرارها المصيري لا يتعارض مع أنوثتها وتكمل:”أنا محظوظة لأن لديّ شريكًا يساندني ويدعمني بحب، لذا أنصح كل شخص تعاني زوجته أو حبيبته من ذلك المرض أن يساندها في ذلك القرار حفاظًا على صحتها”.
وقفت المساندة كما في حالة صافي عند حدود اتخاذ القرار، لكنها لم تتعد مرحلة مابعد العملية. وهذا ما أعتقد أن على كل برامج التوعية أن توجه إليه. على الرجل أن يضاعف الدعم ويغدق عاطفيًا بعلاجٍ لا تعوضه كل كيمياء الدنيا. لكن الدراسات والاحصاءات التي تجرى في أميركا، والتي لا نمتلك مثيلًا لها في العالم العربي، تؤكد أن النسبة متوازنة، فنصف الأزواج والزوجات أصبحت حياتهم الجنسية سيئة بعد عملية استئصال الثدي، بينما تحسنت عند النصف الباقي وصار الأزواج أكثر حناناً. وتقول الدراسة إن العلاقات التي كانت أصلًا مضطربة بقيت على اضطرابها. لكنهم يوضحون دومًا أن الدراسات التي تتناول شريحة من الناس وليس كل الناس تحتمل الكذب أيضًا، فقد يقول أحدهم إنه أصبح أكثر تعاطفا وفهما للمرأة بينما في الحقيقة قد لا يكون كذلك!
يحضرني الآن صوت رشا صديقتي الخائف قبل كل فحص دوري للكشف عن مدى توقف السرطان أو عودته. يعود شبح المخاوف كل ستة أشهر ليلقي بظلاله المرعبة، وتعود ضحكة رشا كلما اتصلت للاطمئنان عليها:
– الحمد لله ممتاز النتيجة سلبية.
كان القرار الشجاع لرشا ألا تستأصل كامل الصدر على الرغم من تفضيل الأطباء لهذا الحل الجذري، لكنها سألت الطبيب:
– كم هي نسبة ألا يعود المرض للانتشار إن لم نقم بالاستئصال كاملاً؟
– 1%
-إذاً أنا أتمسك بهذا ال 1%، وأملي كبير.
الأنوثة غالية جدًا، تفاصيل الجسد، تاج الشَّعر، وقوة الروح. إنها اليوم تكتب على الفيس بوك وتحصد الإعجاب بخفة دمها، لديها طفلان هما كل حياتها. تعمل في مجال التنسيق الصحفي، لم تكشر يوما في وجه قريب أو صديق، ولم تبخل بودها حتى على من بخلوا عليها به.لا تتمسك كثيرًا بحلم الحل التجميلي، لأنه مكلف جدًا. لكن ما تنشره من جمال في محيطها الصغير وفي العالم الافتراضي، يؤهلها أيضاً لتكون حكايتها ملهمة ومحترمة مثل أنجلينا جولي تمامًا. سمر أيضا تستحق الاحترام، تلك الأم التي كانت تقود سيارتها بنفسها لتأخذ جرعة العلاج الكيماوي في حر الكويت الكفيل بتسبب الإغماء لشخص سليم بدنيًا.
يقول الأطباء إن نسبة الشفاء تصل إلى 97% في حال اكتشف الورم باكرًا، أو في مراحل التشكل الأولى. لذا على كل سيدة ألا تهمل أبدا الفحص الدوري المسبق. هذا كل ما يتطلبه الأمر. ومثلما تمشطين شعرك يوميًا، وتتفقدين بشرتك وأظافرك وتعدين طبخة اليوم للعائلة، امنحي هذا الجسد بعض الوقت فالحياة تستحقك.
أما حبيبتنا أنجلينا فوقفت في مجلس الأمن بكامل الأناقة والاحتشام لتدافع عن أطفال سوريا وعن السوريين:
قالت عن مجلس الأمن بأنه مشلول
قالت: بعد أربع سنوات تحول أمل السوريين إلى غضب
قالت: سألني السوريون لماذا لا نستحق الإنقاذ؟
الأنوثة الكاملة هي الحقيقة والجرأة والعدالة، هي الحنان والطيبة والإغاثة، هي الكرامة والعزة والثورة والحرية. ولا أعتقد أنه يوجد إغراء أكثر من هذا يفتح الشهية على الحياة. وكل من توفرت لديه هذه الصفات لن يهزمه مرض وإن طاله الموت فسيحيا..
هذا المقال تحية لرشا الأخرس ونوار نصر الله ومحمد كنج دندشي ورزان الخوجة ولكل مصاب بهذا المرض الخبيث، ولم تطل خباثته روحه، وبقي يطل على الناس بابتسامة تشع بالقوة والإلهام. ولذكرى الحي بيننا غسان سلطانة.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.