نم يا أحمد. رفاقك كلهم ناموا. غدا سنذهب من جديد إلى المول. سأشتري أغلى ما فيه. أعدك. سنذهب كما كل يوم…(إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا…)
بناء اسمه ال(مول). غرسة أمريكا تنمو بشراهة في المدينة الحديثة النعمة. طوابقه سبعة. أشياؤه أحلى من احمد. بهارجُهُ مصفصَفَةٌ على رفوف الزجاج العاكس لأطياف قزح. تدوخ العين بين وهادها أوّلاً . ثم سريعا تكرج على إغراء مروجها برشاقة و فرح. تومض رقصات الأضواء على إعلانات بحروف أجنبية. تنتصب مانيكانات لا تشبه نساء البلاد. هياكلها بنحول عارضات الأزياء، وبابتسامة نجمات السينما أمام الكاميرات.
تتمشى مريم بهدوء مَن خبرَ المكان. بثقة من يألف هذه الأبهة منذ الصغر. تحمل أحمد الغافي بعد طول بكاء، تستلّ من صدرها منديل القماش الطريّ وتمسح به خيط اللعاب السائل من فمه. خيط دمٌ قانٍ يخالط اللعاب. أحمد اليوم أفضل حالا. بالأمس كان ينفث دما صافيا. يصحو أحمد. يتابع البكاء. تهدهده فيغفو من جديد. تقترب منها البائعة بغنج. كأنها مانيكان خرجت من واجهتها وانطلقت تشرح فضائل الماركات العالمية: “نستورد قطعة واحدة من كل موديل، لن تجدي من تلبس مثل هذا الفستان لو دُرتِ في بلاد الشام كلها يا مدام!”. تتفانى المانيكان/البائعة في ترقيص أصابع يديها المطلية بكل الألوان على أكتاف الفستان، وأكمامه، وتجغط القبة المجغوطة أصلا لعلها تفلح في إقناع المدام ـ مريم المترددة طويلا في شرائه.
تعتذر منها مريم. تعدها بالعودة إن لم تجد فستانا بقبّةٍ ضيّقة. تخرج إلى المطعم المعجوق بزبائن جائعين، أو غير جائعين، لكن: محبين لرفاه الأكل الغربيّ. هل أشتري لك سندويشة يا حمودة؟ يشيح عنها بعينيه الرطبتين. تُجلِسُه بأنفه المنتفخ على الكرسي الخيزران، وتروح صوب الواجهة العامرة بالأطايب. تسأل البائع عن اسم هذا الشندويش، وهذا…وهذا…لا يعجبها شيء. تلتفت صوب أحمد الذي صحا وبرقت عيناه. إذا سيأكل. تعود إليه وفي يدها سندويشة ملفوفة بورق سيلوفان أرجواني. أحمد يحب اللون الأرجواني. وجدت السيلوفان منسيا على رف في البيت الذي (استأجروه). السيلوفان أوحى إليها بفكرة السندويشة المودرن: بلّلت الخبزة الجافرة، وملستها بهريس الزبيب المنقوع الذي صار مربّى لذيذا، ولفتها في الورق (في بيتها، في غفلة عن بقية الصغار). الآن تخرجها من جزدانها، وتسير بها إليه. ترشوه بكل هذا الأرجوان، ببهاء طقس الشراء من السوق ترشو أحمد أن يأكل. يقضم أحمد بفرح. تمسّد أصابعه الصغيرة الأرجوان الزاهي. يطقطق الورق بموسيقا لطيفة. أنف أحمد يؤلمه مع المضغ. ربما لا يروق له هذا المربى. عنيد كوالده. والده البعيد…
لم يعد أبو أحمد يشبه نفسه بعد أن رماه باص الاعتقال التابع لفرع ( الخطيب)أمام المانيكانات السعيدة في محلات فندق ال( فور سيزون) وسط دمشق. ألقوه هناك ككيس نفاية مبعوج هو وبضعة رجال عراة إلا من ثيابهم الداخلية. لم يعيدوا إليه لا الثياب، ولا مفاتيح البيت ولا صورة الأولاد ولا تلك الورقة الحبيبة (مفتاح تهمته) التي خطّط عليها: (غزة تحت الحصار). كان يتيمّن باسم غزة كاسم سوريا. (هذه كلمة السر بينكم يا حيوانات…تظنوننا لا نعرف..) كانت في جيبه حين خرج في ذلك اليوم الحلو منذ أكثر من عام ـ أيام الثورة الأولى. كانت المظاهرات تغريه أكثر من صلاة الفجر في ضيعته (مسرابا). مسرابا أختُ دوما الصغيرة المتكئة على ضلعها بين البساتين الكريمة. تعبق مثلها بالهواء النقي الكافر بالظلم. انضمّ إلى المظاهرة قبل أن يمضي إلى دوما في المطبعة حيث يعمل. قشّ رجال الأمن كل من لم يستطيعوا الركض. رعب مريم ـ التي لم يعد زوجها إلى البيت ـ أركضها إلى فروع الأمن. كلّ فروعهم سخرت منها وشتمتها وطردتها ولم تقرّ باعتقاله. لم تعثر له على أثر أو على جثة. بكت طويلا. أيامها لم تكن الدموع قد فاضت سيولاً في البلاد. بعد عشرة ايام من اختفائه دقّ أبو أحمد باب بيته ملفوفا بشرشف ستره به أولاد الحلال. تحت الشرشف بانت كدمات جلده وحروقه وآثار السياط. يكفي أنه حيّ. بعد أيامٍ نزح أهلُ مسرابا حيث صار القصف على سمائها كأسراب الذباب. صاروا في دوما في بيوت الأقارب قبل أن تصل إليها ـ هي الأخرى أسراب القصف. نزحوا ثانيةً إلى جرمانا. إلى الشقة ذات الستين مترا يتلملم هو وأمه و أبوه وأخته أم الخمسة أطفال آخرهم ولد منذ أسبوعين، وأخته الثانية وأولادها الأربعة وضماد جرحها بعد عملية الزائدة الدودية منذ اسبوع. زوجاهما شهيدان. لم يتسع المكان لأم مريم الأرملة فأقامت عند صديقة لها أرملة مثلها. تكتفي بزيارة ابنتها من حين لحين. أبو أحمد كفيل هذا الجيش الصغير يستودعهم الله ويختفي عن عيون الأمن الذي يتبعه حتى إلى جرمانا. لم يبقَ لديهم مورد إلاّ ما حملوه من مؤونة. وقد نفذ. وكذلك الكهرباء، التي بانقطاعها ينفذ الدفء أيضا.
أحمد صغير مريم لا ينام. يشخر كعجوزٍ بعد انسداد أنفه بالزوائد اللئيمة. تبيع مريم إسوارتها قبل الأخيرة (الأخيرة ستدّخرها ما استطاعت…) وتُجري لأحمد استئصالاً للّوزتين والزوائد الأنفية. يوصيها الطبيب أن تُدفئ الصغير النحيل، وأن تطعمه جيدا. تشكر الطبيب الحريص. وتلعن البرد الأعمى وتحاربه بهجرانه إلى المول المحضون بالتدفئة المركزية تحمل أحمد منذ أن يفتح أبوابه في الصباح تظل تتجول من طابق إلى طابق حتى يغلقها في العاشرة ليلا، ليدفأ ما استطاع قبل أن تعود به إلى الشقة العارية.
28 / 1/2013
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.