١
مساءٌ هادئ ممطر في قريتي البعيدة..
خطوات المشيعين وئيدة..
وجوههم بيضاء بلا ملامح، بلا حياة..
يحملون نعشي و ذاكرتهم تستحضر صوري ، و آخر رؤية لي..
همس أحدهم : كان رساماً…
سمعته.. تذكرت ريشتي و آخر لوحاتي تمنيت أنْ تُمنح لي الحياة ساعة أو اثنتين لأرسم جنازتي..
صفان من الأشجار و بينهما هذا الطريق الموحل المودي إلى السواد و التابوت فارغ يزحف بلا مشيعين، ملفوف بعلم البلاد الممزق، و جثتي بعيدة … بعيدة في القرية التي قَتلتُ و قُتلت فيها، مدفونٌ في مقبرةٍ جماعية بلا ترتيب، بلا هوية أو رسالة تعريف صغيرة. منسيٌ مع أصدقائي الذين سارت في مدنهم و نواحيهم جنازات بتوابيت فارغة ملفوفة بعلم البلاد الممزقة..
٢
صخبٌ يحيط بنعشي و هذي الأهازيج تقلقني، و الرقص ما زال يلتهب في قدميّ، قلبي ما زال يرتعش بالحياة.
البارحة كان رأسي بين هذي الرؤوس، و اليوم صباحاً وقع في عين قنّاص فأرداه..
لم أكن ميتاً…كنت عاجزاً عن إخبارهم بأنني حيّ..فقط.
عندما هدأ الدوران و سكنت الأصوات..
رأيت إبني يقترب من جثتي … هذا الذي كان يهرع إلي عندما أعود مساءً بضحكة صافية، لأسمع فيها خطى الملائكة في السماء و رنين ضحكاتهم التي من نور.
رأيته اليوم و قد لفه السكون يتنفس قرب وجهي ناراً و عيونه فارغة…رأيتُ في فراغ عينيه ظلّي و أنا عائدٌ مساءً و سمعت فيها ضحكته تلامس السماء..
بحثتُ في جنازتي عن أبي ….أبي الذي كنت أهرع إليه قديماً عندما يعود مساءً و أضحك حتى تختنق ضحكتي في رائحة صدره القوي…
٣
لم يكن الأمر يستحق جنازة..
كانت أمي تحرك رأسها يميناً و شمالاً تكلّم نفسها و تكلّمني، تقترض من الماضي دقائق لتعيدني حياً..
لو أنني ما تعجلتُ في فطوره..
لو أنني أطلتُ إخفاء عطره العزيز……..
-لم يخرج أحد في جنازتي..
إلا أبي المنهك خرج يبحث عني في ساحة الإنفجار..
لم يجد شيئاً إلا اليقين بأنّني كنت الأقرب للقنبلة..
٤
جميعهم لا يريدون وصول المقبرة..
خطواتهم تتردد، تريد العودة..
كل العيون ترقب صديقي….كان يقسم أمامهم أنّ موتي شرف..
و أنني ما خنت العهد، و أنّ وجودي بين الجنود ساعة الهجوم كان حيلة..
لكن الخطوات ابتعدت و تلاشت الجموع..
كنتُ مطمئناً مع صديقي الذي دفنني وحيداً..و عندما غادر كتب أهل البلدة القساة على شاهدة قبري بالأسود
(خائن)..
٥
أمّا أنا فكنت أراقب جنازتي من زنزانتي، بعد أن رفض سجّاني إخبار أهلي بأنني حي..
كانوا يهيلون التراب على أشلاء رجل آخر..
كانت أمه بجانب أمي تبكي حزناً عليها..
