عن الأبجدية واحتضاراتها

عبدالرحمن الكيلاني

هكذا كلما تكثف الدم في عينيك لدرجة أن لا تتبين لونه، تخف الأبجدية وتفقد الكلمة معناها وتبدو كاللاشيء.. عندما تضج المقبرة في ذاكرتك، وتختلف عليك أصوات الموت – لكل شكل موتٍ صوته – تفقد القدرة على التمييز، وتضيع منك الاستعارات فلا تكمل مهمتك الحانوتية، فتشتهي أنت تموت..

تحاول..
– للذين تنفسوا فماتوا: الهواء مبلل بالفوسفور، ولا سبيل لكم إلا أن تغتسلوا به فتحظوا بموت جماعيٍ وسريع.. ولو أنكم تشتهون موتاً أكثر قيمة، أن يكون الدم محل الزبد، والزبد نشيج البحر عليكم، إن أردتم النجاة عليكم أن تتنفسوا حليب الأمهات وحده أو أن تنتصبوا أمام الصاروخ الكيماوي فتدمون، و… ”
– نص رديء، حاول ثانية

وتحاول..
– للذين استشهدوا في سراقب: الحيطان كعبتكم فطوفوا، قال الشاعر: سنكون يوماً ما نريد” وحققتم أنتم رهانه، وقال أيضاً: على هذه الأرض ما يستحق الحياة ” كسرتم قوله لتقولوا شيئاً آخر: لم يعد على هذه الأرض ما يستحق الحياة “. وقال أيضاً: ونحن نحب الحياة ” قال دمكم: لم نستطع “. وقال أيضاً وقلتم معه: ومن أنا لأخيب ظن العدم ” .. القاتل لم يقرأ قصيدة: إلى قاتل” ولم يتذكر أمه في غرفة الغاز، فقصف الحمائم وكتبت الجدران على نفسها شيئاً واحداً: أيها المتفرجون تناثروا في الصمت “. و….
– مليء بالاقتباس، لكي تكون حانوتياً عليك أن تكون شاعراً لا سارقاً.. حاول مرة أخيرة
– ماذا لو اقتبست جملة ” كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز ” للمحاولة الأولى؟

وتحاول..
– للذين انهاروا من انهيار رمزهم: قاماتكم السامقة الممتدة طويلاً طويلاً بطول خيط الدم إلى المنتهى لن يكسرها قصف مدفعي. المئذنة سجدت خشوعاً فصيرها الله معراجاً لكم. فاعرجوا إلى العلوي، وافتحوا باب السماء وقولوا له: لقد هرمت من كثرة الفاتحين “. و…..
– النص ….
– لا تقل شيئاً، اسكت

وتفشل..
– للذين ماتوا بشكل عادي، أي: قصف معتاد أو قنص أو تحت التعذيب أو أي سببٍ تكرر كثيراً ولمجهولي الهوية: ”

بينما كل ذلك، كان المشهد في خلفية نشرة الأخبار أكثر فضيحة، كان نقاش رتيب:
– ما آخر الحصيلة؟
– 107 قتيلاً أو 170 لا أدري تماماً
– سأقول أنهم بلغوا ال200، لتبدو النشرة دموية
– دموية؟ قبل أن تنتهي من النشرة سيتخطون هذا الرقم
الآن أنتِ على الهواء، ترتبك المذيعة كمن تقدم النشرة أول مرة:
– أعزائي، ذكرت لجان العد والحساب أن أعداد القتلى بلغت اليوم 96 قتيلاً، كما وقع قصف مكثف على كلٍ من:….

الصورة: مقطع من تشكيل لمروان قصاب باشي.