لا أحد يدري ما كان في البدء، لكن الأعمدة المطمورة في أرض التلّ جعل البعض يقرّ بها نقطة البداية.
ثم انتشرت الأسطح على مرأى من الجدران القديمة، وزحف العمران صوب الجبل الأبيض، على الأرض الكلسية. وتشكّلا مع الزمن، وبدون قرارات فوقية، شارعان رئيسان تقاطعا كالصليب، تلكّأ أحدهما من جانب عند جذع الجبل وأشار طرفه الآخر منحدرًا إلى الوادي الصغير، بينما اتجه الآخر إلى النبع، محاذيًا النهير.
ولم تُشغل الأذهان بتسميات لهما، فقد عرفا دومًا بالفوقاني والتحتاني.
كانت الدار الكبيرة عند التقاطع، ما أصبح فيما بعد قلب القرية وزحمة السوق. والحقيقة أنها الدار التي حدّدت نقطة التقاطع، فعندما بنيت، وكان جدّ عبد الواحد علاء الدّين واسطي العال طفلاً يحبو آنذاك، كان موقعها منعزلاً بالنسبة إلى التلّ، رحم الضيعة، ومع امتداد العمران إلى تلك الناحية كان ذلك الجدّ القديم يشير على الناس فارضًا أين وكيف، دون أن يُفصح لماذا، يجب أن يقوم البناء.
نمت الضيعة بالاكتفاء الذاتي وقد أطبقت العزلة عليها عبر القرون في موقعها الخفي النائي عن مسالك البشر، في عمق الجبال التي تحدّ البادية من ناحية الغرب. تكفّل التناسل المعتاد بذلك، فكثرة الأيدي في الدار تترجم إلى اتساع رقعة الأراضي المفلوحة في الوديان المجاورة، إلى امتلاء بيت المؤونة، إلى عزّ وجبروت الزنود في زمن الشدّة وصون لكرامة العائلة، تلك النزعة العشائرية التي تعقد الجبين لمولد أنثى.
وكان لامتداد العزلة واطّراد التزاوج بين الأقارب أن كَثُر بين أبنائها البلهاء والمعاقين، لكن فريضة الحج التي قام بها بعض مسلمي الضيعة سمحت بتطعيم النسل بنساء جُلبن مع ماء زمزم من المدن والبلدان الواقعة على الطريق. كاد يكون ذلك الموسم الرابط الوحيد مع العالم الخارجي ومجرياته. كما شهدت الضيعة عبر تاريخها موجات من الهجرة إليها، إذ غدت ملجأً لمجموعات متباينة من ضحايا التبدّلات المفصلية، كسقوط بيزنطة، عندما غدت ملجأً للنصارى فحافظت على لغتها الآرامية لغاية القرن الثاني عشر، وعزلتها تلك لم تحمها دومًا من توغّل الجباة في شعابها ومن استيطانها من قبل الفارين من قلاقل البشر والطبيعة، فهذه الأخيرة تزلزل بين قرن وآخر وقد تحوّل إليها بعض النازحين من الحواضر المجاورة التي أصابها الدمار، تلك التي يسمّونها اليوم في “الغاب” المدن الميتة. ثم حلّت موجة كبيرة مع احتلال الصليبيين للشريط الساحلي واغتنى نسلها بمن احتمى بها مع طرد أولاء.
كانت دومًا ضيعة خفيّة وهنيئة، هذا ما يصرّ عليه شيوخها بالتوارث، فهي لم تغلق يومًا أبوابها ولم تجفل من الاختلافات، الأمر الذي جعلها عجينة من المعتقدات والملل المتعايشة بأمان ورضى.
لكن عصر العتمة العثمانية استطال فانكفأت الضيعة على نفسها بصورة أعمق ورأت أن تجترّ حكاياتها في الحيز النيّر الذي أتيح لها.
إلاّ أن الانعزال لا يضمن الدعة والسلم على الدوام، لأن ذلك الجانب الحيواني الذي يحمله ابن آدم ويعنّ له بين فينة وأخرى الاستعانة بتلافيف دماغه لتأكيده يكفل استمرار الحيف. لهذا، عندما يموت المرء يموت مرتين في الآن ذاته، مرة إذ يُتوفى الأنس منه، وليس للأمر رائحة، والثانية إذ ينفق منه ما يستحيل جيفة، الأمر الذي جعل من المستحسن دفنه.
كان لا بدّ إذًا من بعض الخلافات، كتلك التي نسجها في القرون الثلاث الأخيرة آل الجبراني وآل واسطي العال وتنازعهما زعامة حمقاء، إلاّ أن “حكمة” العوام كانت الأقوى دومًا فكانت تتجاهل الحماقتين.
كان لكل بيت بئر يُحفر عادة قبل الشروع بالبناء، فما من خير في بيت بلا ماء، إلاّ أن المياه غارت في أعماقها أواسط القرن التاسع عشر لأسباب يرجعونها إلى الإرادة الإلهية، كل حسب معتقده وملّته. وتلك الإرادة أمر دوريّ في تلك الرقعة من الجبال. ومن دلائل قدرة الخالق أن مياه النبع لم تنقص أبدًا فمدّدت أنابيب من الرصاص من مستودع بني على الصخور، أسفل النبع، لغاية جامع السوق.
————– تنويه: * الموطىء: هو الفصل الأول من رواية الولعة التي سننشر فصولها (التَّوْطِئَةُ – الوطْأة – الوطاءة) على التوالي، أسبوعياً على دحنون ————-