كانت جدّتي العجوز ذات الشعر الأحمر المختلط بالشيب والعينين الزرقاوين جالسة تحت شجرة التين الكبيرة حين سمِعَتْ أحدهم ينادي بصوت عالٍ شابّاً اسمه “سليمان” وبدأت تتمتم بصوت منخفض وشفاه مرتجفة: “آه سليمان، سليمان؛ يالَ ذلك التاريخ الأسود، يالَ ذلك الإسم المقيت”… ثم تبدأ بالسّرد، تصمت حيناً وتبحر في اللامكان حيناً آخر، تتكلم بصوت منخفض وكأنها تخاف أن يسمعها أحد: “هذه القرية المشؤومة؛ لقدكانت ملاذاً آمناً لأبنائها حين نزوحهم، لقد حلّت علينا اللعنة منذ ذلك الزمان، فهرب الرجال إلى هذه القرية واعتزلوا المدن الكبيرة، وأصبحت حرماً عليهم، تلك الجبال الساحلية الوعرة، منازل الطين والتّبن، والنفوس الجبليّة الصنع، الموحشة كتلك الغابات، ويديّ الخشنتين من زراعة الدخان، كل ذلك كان اسمه في يوم من الأيام؛ “سليمان “، عزلةٌ أبديةٌ فُرضَتْ علينا. أيّ ذلًّ، أن ترى نفسك قرداً في عيون أحدهم!؟ ولا تملكُ أن تفعل شيئاً، سوى الإشاحة ببصرك عنه! حسناً، الأرض تقيأتنا، إذاً، فلنبتعد قدر المستطاع”!
أتأمل يديها وهي ترفع عكازها لتلتقط غصناً عليه ثمرة تين، الفقر والجوع والذل والخوف الدائم، سواء من وحوش الجبال، أو من أبناء المدن في ذلك الزمان، كلها جعلت تلك النفوس الغارقة بالخنوع تنفض عنها رائحة الروث والماعز عندما آن الأوان، لقد كانت العزلة تشعل نار الأحقاد نحو أبناء المدن، “المنتجين”!، فكل يوم تُخلق خرافة جديدةٌ، تحتضنها الذاكرة، لتصبح اكثر قدسيّة وأكثر تشرباً للكراهية، متحولة إلى نصوص دينية، يتغذى بها الاجداد، ويجترها من بعدهم الآباء، ثم ليختنق بها الأبناء الذين أتوا، أو سيأتون .
تصمت الجدّة قليلاً، تقشّر حبّة التين وتناولني إياها، وتكمل: “لكن دوام الحال ضرب من المحال يا صغيرة؛ فقد جاءنا المحتل ّالفرنسي “وأخيراً!” حاملاً معه كيساً من الأحلام المؤجلة لأهل الجبل؛ منحنا دولة قويّة ومستقلة عن أولئك المختبئين في “ملاياتهم”! وأخيراً، حان وقت تحقيق الأحلام، لقد عمل والدي في الجيش الفرنسي، لم يكن وحده هناك، فقد التحق العديد من شبان القرية بالجيش و لبسوا البدلة الميري، لقد منحهم ذلك القوّة والقدرة على الانتقام من أولئك المنافقين، سوى ان ذلك لم يدم طويلاً، فلقد رحل الفرنسيون مجددا عن أرضنا، وعاد الرجال إلى القرية ثانية، وعادت “مسلّات” الدّخّان تتلذذ بثقب أصابعنا، لقد عدنا مجدداً إلى الاحتماء بالجبال، وكأن جلدَنا البديل الذي صنعته الحياة لنا من وحل وقشً، قُدِّر لنا أن نرتديه، ماحيينا؟!”
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.