سميح آغا
مقدمة:
تتحدّث الكاتبة الفلسطينية بدور حسن في مقالها (السيّاسة الجندرية للكرة الصفراء) عن مدى المساواة بين الجنسين الذي حققته كرة المضرب مقارنةً بمختلف الرياضات الأخرى، سواء على صعيد المدخول المادي بين اللاعبين واللاعبات، أو نسبة المتابعة الجماهيريّة لهم ولهُنَّ.
تنبيهاتُ بُدور الرياضية تفتح المجال لتفحّص الوضع الجندري(1)“Gender” باللاتينية يدلّ على التمييز التباينيّ حسب نوع الجنس مذكّر أم مؤنّث. لباقي الرياضات، طبعًا لا داعي للتذكير بأن أكثرها شعبيّة -أي كرة القدم- تكاد تكون المساواة الجندرية فيها موؤودة، هذا أمر واضح فالبطولات التي تحوز الأهميّة على مستوى العالم هي للمحترفين الرّجال فقط، كأس العالم أو دوري الأبطال…الخ.
لا يبدو الوضع أفضل على صعيد الرّياضات غير الشعبيّة أو الرّياضات التي ينحصر فيها التّركيز على المجهود الذّهني لا البدنيّ وبالطّبع الحديث هنا عن الشطرنج. على العكس تماماً فالتمييز في الرياضات الذهنية أشدّ إلحاحًا على التنميطات الاجتماعيّة بما يتجاوز القسمة الجندرية ”رجال/ نساء“ وكفى، بل يتعدّى ذلك للتمييز الاجتماعيّ بين الأعمال الذهنيّة التي تلقى احترامًا كالطبّ والهندسة ونظم الشعر، ولاعب الشطرنج إلى هذه الفئة أقرب، وبين الأعمال البدنية التي تنحدر على سلّم القيم كالعمّال، ولاعب الملاكمة إلى هذه الفئة أقرب. تضاف إلى تلك الأسباب المواجهةُ السياسية الصّارخة التي شهدتها الشطرنج خصوصًا في زمن الحرب الباردة(2)تقريبًا؛ منتصف الأربعينيّيات حتّى أوائل التسعينييّات. بين المعسكرين الاشتراكي والرّأسمالي؛ وتعزيز فرص التقاطع بين “رجال” اللعبة مع “رجال” السياسة حينها، أو حتّى التقاطع القائم في زمننا هذا (مثلاً علاقة الأبوة الروحية بين اللاعب الشاب الأوكراني ــ الروسي سيرجي كرياكين(3)“Sergey Karjakin” توّج عام 2016 بطلًا عالميًا في الشّطرنج الخاطف. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين). إذن هذه التراتبية بين العَمَلين الذهنيّ والبدنيّ لم تجد من يتبنّاها ويعبّر عنها في الانتماءات الطبقيّة والمجتمعيّة فحسب، بقدر ما عبّر عنها فلاسفة ومنظّرون عَـبْر التاريخ ابتداءً من تنظيرات أفلاطون وأرسطو العبودية حتى تنويرية ديكارت في الكوجيتو(4)باللاتينيّة “Cogito” المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان، الشائع في ترجمتها هو أنا أفكّر إذن أنا موجود، ترجمات أخرى نقلتها أنا أشكّ إذن أنا موجود. الشهير الذي جَوهَرَ فيه عملية التفكير ب(أنا أفكر أنا موجود) قبل أن تنتصر فلسفات أخرى كالماركسيّة لموقف تغييري وأكثر تفنيدًا لتقسيم العمل بوصفه تيمة طبعت نمط الإنتاج الرأسمالي، وصولًا إلى ستينيّات القرن الماضي وتقدُّم مقولة الجسد كسياسة، أو كما كان يقول موريس ميرلوبونتي(5)“Maurice Merleau-Ponty”،1908-1961، فيلسوف فرنسي. ــ في سياق نقده لديكارت- ماذا لو لم أكن مفكّراً؟ عن أي وجود سنتكلّم؟.
كاسباروف ناشط “فيمنست”، وبولغار على صفحات “البلاي بوي”:
في الشطرنج هناك رجال وهناك نساء وهناك جوديت بولغار(6)“Judit Polgár”، لاعبة شطرنج مجريّة مولودة في 1976، حائزة على تصنيف الغراند ماستر، شهرتها كأفضل لاعبة شطرنج أنثى في التاريخ.، بهذه الكلمات تطالعُك الكتابات إذا أنت بحثت عن اسم جوديت بولغار. تحوّلت هذه العبارة إلى أشد المقولات النمطية الملازمة للّعبة عاّمة وللّاعبة الهنغارية خاصّة وكأنها ليست امرأة!، فجوديت بولغار ليست اسماً عاديًا في تاريخ اللعبة فلو أردنا الاختصار بتتبعنا لمسيرتها سنعلم أنها بمقياس ذكاء /170/ وهذا مقياس خارق! (قلّما أستخدم هذه الصفة “خارق” ولكن وجدتني مضطراً لذلك). حصّلت بولغار لقب الأستاذيّة الدوليّة وهي بعمر أصغر من غاري كاسباروف(7)“Garry Kasparov”،لاعب شطرنج روسي مولود في أذربيجان 1963، أحد أشهر أبطال العالم في الشطرنج. وبوبي فيشر(8)“Bobby Fischer”، بطل شطرنج شهير، أميركيّ، 1943-2008. أعظم وأخطر الأسماء التي مرّت على اللعبة.
لم تكن جوديت وحيدة في مسيرتها إذ يمكن الحديث عن الأخوات بولغار، كمعادل لحديث بدور حسن عن الأخوات ويليامز فينوس وسيرينا(9)“Venus Williams”، 1980، لاعبة تنس أميركيّة شهيرة. كما اختها “Serena Williams”، 1981. في الكرة الصفراء، كذلك الأمر مع جوديت وأخواتها الغراند ماسترز(10)“Grandmaster” هو لقب دولي ترجمته الحرفيّة أستاذ كبير وهو أكبر لقب يحمله لاعب الشطرنج ويمنحه الاتحاد الدولي للشطرنج. سوزان، وصوفي، ليبقى الدور التنظيري في العائلة للأب لازلو بولغار الذي خطّ تجربته مع بناته الثلاث اللواتي تخطّين كلّ التوقعات في كتاب عنونه بـ (قم بتربية عبقري)(11)الكاتب “László Polgár” هنغاريّ، الكتاب “Bring Up Genius!” منشور عام 1989. والذي يحاول فيه إثبات أن العبقرية تصنعها الظروف والتربية وليست سابقة على الاكتساب. نأتي الآن للحديث الأكثر جدلاً في حياة جوديت هي مقابلتها مع مجلة بلاي بوي الإباحية والحديث عن اعتزالها اللعب، الأمر الذي قوبل بالكثير من الاستهجان والاستنكار من قبل الكثيرين الذين هاجموا اللاعبة على حسابها في مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات مثل ياللعار، لم تقتصر مقابلة بولغار مع المجلة على حديث الاعتزال بل أُرفقَ معه أيضاً مقطع مصوّر تقوم فيه اللاعبة بالوقوف أمام عدسات المصورين هناك وتتحدث عن تجربتها.
في سياق متصل وعلى صفحات مجلة توصف بالاستهلاك والتّسليع وأنها منافية لرصانة لاعب الشطرنج، وقف الشطرنجي والمعارض السياسي الغني عن التعريف غاري كاسباروف بجانب ناشطات نسويّات من حركة فيمن(12)“FEMEN” حركة احتجاجيّة تدافع عن حقوق المرأة تأسست 2008 في أوكرانيا. وهي حركة نسوية تحتج على السياسات المناهضة لحقوق المرأة من خلال التعري الاحتجاجي (وليس التسليعي كما يرونه)، وهذه المرّة تعرّت الناشطات في إحدى الساحات العامة ضد سياسات فلاديمير بوتين العدو اللدود لكاسباروف والذي سبق أنْ احتجزه في سجونه فترة وجيزة عام 2013، قبل أن ينتقل للعيش في أمريكا، إذن قفز كاسباروف ليستغلّ الحدث ويندد باعتقال الناشطات وكأنه يريد الانتقام من خصمه السياسيّ. وعطفًا على ما قلناه في المقدّمة يمكن الاستطراد قليلًا والإشارة للعلاقة الوطيدة التي تجمع كاسباروف كمدرّب ببطل العالم الحالي النرويجي ماغنوس كارلسن(13)“Magnus Carlsen”، نرويجي مولود عام 1990، حائز على لقب الغراند ماستر.، الخصم اللدود لسيرجي كارياكين فتى بوتين المدلل.
بوبي فيشر شريداً في المنفى، ورانيا العبّاسي في غياهب الاعتقال:
إذا كانت عائلة بولغار قد طبّقت شهرتُها الآفاق، وتمّ تسليط الأضواء عالمياً على إنجازاتهم، فإنّ عائلة العباسي بالمقابل هي النسخة السورية الأكثر مأساوية، ففي شهر آذار /2013/ قام النظام السوري باعتقال الدكتورة رانيا العباسي (1970,…) بطلة سوريا والعرب من منزلها في ضاحية دمّر، النظام لم يكتفِ بهذا بل بطش بهمجيته المعهودة بالعائلة بأسرها فمازال زوجها وأطفالها الستة يرزحون في أقبية الأمن دون محاكمة ومصيرهم مجهول ولا أحد يلتفت لهذه المأساة الموصوفة سواء من الاتحاد السوري للشطرنج وهو مؤسسة زبونية والقائمون عليها شأنهم كشأن المؤسسات الرسمية التي لا تقوى على مواجهة توغل أجهزة الأمن. لكن أن يلفّ القضية كل هذا الصمت من مؤسسات عالمية وإعلام سوري بديل ومعارض فهنا يكمن الاستهجان وحساسية الموضوع الذي تعدّى فيه الإجرام مستويات فظيعة. إنّ المرء ليخجل حقاً أن يمرر قضيّة الدكتورة رانيا وعائلتها هكذا ضمن مقال عام، لأن إنجازاتها وتضحياتها تستحق أن يفرد لها الكثير. في حين يتم تقاسم الحصص التضامنيّة بين الجماعات المعارِضة في سورية وفق ترسيمة أيديولوجية “معتقلونا ومعتقلوهم” فإن حياة الدكتورة رانيا مهدّدة ومجهولة المصير، والتغطية الإعلامية على قضيتها تبدو محصورة بصفحة فيسبوكية وحيدة يديرها مقرّبون منها وكأن قضيّتها خاصة وليست قضية رأي عام. ليس هذا غريباً عن نظام عُرِفَ ببطشه بكل من يخالفه الرّأي بغض النظر عن مكانته، ولنا في استشهاد المعتقل جهاد قصاب لاعب المنتخب الوطني لكرة القدم، وبالمآل المحزن للاعب الشطرنج عماد حقي خير دليل.
خاتمة: الرياضة حصننا الأخير في مقارعة الآلة البيو-سياسية التي تطحننا.
في روايته “كل المعارك” يقدّم الروائي الأردني معن أبو طالب(14)معن أبو طالب محرر وأحد مؤسسي موقع معازف، حائز على ماجستير في الفلسفة الأوروبية ونظرية النقد المعاصرة من مركز أبحاث الفلسفة الأوربية المعاصرة في جامعة كينجستون، كلّ المعارك هي روايته الأولى، صادرة 2016 عن دار الكتب خان في القاهرة. من خلال بطله سائد حبجوقة نموذجاً لابن الطبقة الوسطى الذي يتخّلى عن ميزات هذه الطبقة وما أكثرها، ويكفّ عن اللحاق المضني في سبيل الترقي على سلّم المكانة الاجتماعية عندما يقرر ترك كل شيء حتى حبيبته الابنة الوفيّة لهذه الطبقة ويختار متابعة مشواره الرياضي في تعلّم الملاكمة. بالمقابل إنّ الرضا الاجتماعي الذي يحفّ بلاعب الشطرنج بوصفه “عبقري” يحوّله لآلة معزولة عن الأحاسيس، مهمومٌ دائماً بالمسائل والترقيم الجبري، آلةٌ يظنّ البعض بأنّ التحوّل والانقلاب لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها (قارن عكساً مع أبطال الرياضات البدنية مثل مارادونا أو محمدعلي كلاي) ولا تعيش الماكينة الشطرنجية إلا ضمن قوقعة زجاجية هادئة، إنّ هذه الأسطورة المثالية يحطّمها الواقع المر وتبرهن على زيفها السيرة الذاتية التراجيديّة لعباقرة كُثر مثلَ أسطورة الشطرنج اللاعب الأمريكي بوبي فيشر، الذي لاحقه الانتربول الدولي فقط لأنه تحدّى الحظر الأمريكي للعب في يوغسلافيا، فلم يجرؤ أي بلد على إدخاله إلى أراضيه، سوى أيسلندا التي مات على أراضيها عام 2004، ومثله في التحدي والإصرار الدكتورة الحرّة أبداً رانيا العباسي التي تقبع في سجون نظام “إني أرى في الرياضة حياة”.
المراجع
↑1 | “Gender” باللاتينية يدلّ على التمييز التباينيّ حسب نوع الجنس مذكّر أم مؤنّث. |
---|---|
↑2 | تقريبًا؛ منتصف الأربعينيّيات حتّى أوائل التسعينييّات. |
↑3 | “Sergey Karjakin” توّج عام 2016 بطلًا عالميًا في الشّطرنج الخاطف. |
↑4 | باللاتينيّة “Cogito” المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان، الشائع في ترجمتها هو أنا أفكّر إذن أنا موجود، ترجمات أخرى نقلتها أنا أشكّ إذن أنا موجود. |
↑5 | “Maurice Merleau-Ponty”،1908-1961، فيلسوف فرنسي. |
↑6 | “Judit Polgár”، لاعبة شطرنج مجريّة مولودة في 1976، حائزة على تصنيف الغراند ماستر، شهرتها كأفضل لاعبة شطرنج أنثى في التاريخ. |
↑7 | “Garry Kasparov”،لاعب شطرنج روسي مولود في أذربيجان 1963، أحد أشهر أبطال العالم في الشطرنج. |
↑8 | “Bobby Fischer”، بطل شطرنج شهير، أميركيّ، 1943-2008. |
↑9 | “Venus Williams”، 1980، لاعبة تنس أميركيّة شهيرة. كما اختها “Serena Williams”، 1981. |
↑10 | “Grandmaster” هو لقب دولي ترجمته الحرفيّة أستاذ كبير وهو أكبر لقب يحمله لاعب الشطرنج ويمنحه الاتحاد الدولي للشطرنج. |
↑11 | الكاتب “László Polgár” هنغاريّ، الكتاب “Bring Up Genius!” منشور عام 1989. |
↑12 | “FEMEN” حركة احتجاجيّة تدافع عن حقوق المرأة تأسست 2008 في أوكرانيا. |
↑13 | “Magnus Carlsen”، نرويجي مولود عام 1990، حائز على لقب الغراند ماستر. |
↑14 | معن أبو طالب محرر وأحد مؤسسي موقع معازف، حائز على ماجستير في الفلسفة الأوروبية ونظرية النقد المعاصرة من مركز أبحاث الفلسفة الأوربية المعاصرة في جامعة كينجستون، كلّ المعارك هي روايته الأولى، صادرة 2016 عن دار الكتب خان في القاهرة. |
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.