هنا قصّة ”اللمبچي داوُد“ في قصيدةٍ كتبها الملّا عبود الكرخي وغنّاها يوسف عمر، يستعرضُ المقال أوّلًا نقاطًا في حياة عبّود ويوسف، ثمّ يتطرّق للقصّة والقصيدة.
الملّا عبّود الكرخي:
في ناحية الكرخ قرب بغداد سيولد عبود عام ١٨٦١، ثم سيتنقّل من كتاتيب العِلم إلى حلقات الدّرس في المساجد، كما سيرافق والده لاحقًا في السّفر وتجارة الإبل والجّلود في عمر الخامسة عشر. في الخامسة والثلاثين يموت أبوه فيعود عبّود إلى بغداد للعمل من هناك كوكيلٍ للنّقل والتّجارة، وهي الفترة الّتي صار يُلقّب فيها بالملّا، الملّا عبود الكرخي.
بين عربيّة الكتاتيب وحلقات الدّرس الفصيحة وعربيّة البداوة باختلافاتها واختلاف لهجات العراق ولهجات المناطق المحيطة، سينظمُ عبود شعرًا بسيطًا يستسيغه العارِف والجّاهل كما تمّ وصفه حينها، وأيضًا كان خلال تجارته على معرفةٍ باللغة الكردية والفارسيّة والتّركيّة كما الألمانيّة.
رغم جماليّة ما كان يكتبه بالمقياس العام، ساعدت أيضًا تجاراته وعلاقاته في نشر ما يقوله حوله من قصائد، كما سيكون لمواقفه السياسيّة لاحقاً الأثر ُالبارز في نقل كلماته إلى ألسنة العديدين؛ كقتاله أثناء الثورة العربيّة الكبرى ١٩١٦ وتنظيمه للمظاهرات والأبيات المُغنّاة ضدّ الإنگليز. اشتُهِرَ أيضًا بقصائده الدّاعمة لحقوق المُضطّهدين عمومًا والنّساء خصوصًا.
١٩٢٧، سيصدر جريدة الكرخ ويعتقل بسببها مرّات عدّة، يستمرّ بعدها في العمل الصّحفي إلى أن يموت سنة ١٩٤٦.
يوسف عمر:
بين بيوت المقامات العراقيّة ولِدَ يوسف عام ١٩١٨، في بيئة مليئة بالتراتيل القرآنية والمجوّدين والقوّالين والعازفين وحرفيي المقام والمهتمين، محمد القبانجي سيّد المقامات كما كان يوصف آنذاك سيكون الملهِم الأوّل له. بين ١٩٣٣ – ١٩٤٨ يقضي يوسف في السجن مدة خمسة عشر عامًا بتهمة القتل، ادّعى البراءة وتخطّى تجربة وقت السّجن بالغناء.
١٩٤٨، يدخل يوسف الإذاعة العراقيّة بكلماتٍ يكتبها ويلحنّها ويقولها بنفسه كما بكلمات جبوري النّجار وغيره من شعراء تلك المرحلة، شعوبي ابراهيم عازف الجوزة العراقيّة سيصير صديقه آنذاك حتى آخر حياته.
١٩٥٦، مع منير بشير وخضير الشبلي والبقية من أفضل موسيقيي العراق سيحلّ ضيفًا على التلفزيون العراقيّ، كما سيسافر معهم خارج العراق إلى الدول المحيطة كما إلى أميركا وتركيا وموسكو.
١٩٨٤، مهرجان خاص باسمه لتكريمه، يغنّي بعدها كل يوم خميس في خان مرجان في بغداد ويموت سنة ١٩٨٦.
لا ذِكر للمقام وللغناء في العراق دون ذِكر يوسف عمر.
الحبكة:
تيمورلنك، السّفاح المغوليّ، ١٣٣٦-١٤٠٥، وأثناء اجتياحه بغداد، أتى على رؤوس الآلاف من أبنائها، وجعل من الرؤوس تلّةً وسط المدينة في مُحلّةٍ تكنّت بهذا تحت اسم “كلجيه” أي بيت الرؤوس بالفارسيّة “كل جيه” والمشتقّة من الأصل اللاتينيّ: Call-house، لتنتقل بعدها الغانيات من كافة أصقاع المناطق المحيطة للسكن والعمل بها، ثمّ ستعرفُ لاحقًا باسم محلّة الميدان وستمتلئ بالملاهي والمسارح. حتّى الآن هناك من يطلق لقب “ميدنلي” كاستهزاءٍ أخلاقيٍّ بأحدٍ ما.
أواخر الثلاثينيّيات من القرن الماضي، كان في منطقة الميدان وسط بغداد مبغى كبيرٌ وشهير، قربهُ في مقهى يُطلُّ على الشّارع جلسَ عبّود الكرخي، لتطالعه جنازةٌ كبيرةٌ تمرّ قربه، استطاع عبّود تمييز أنّ جلّ مشاة الجنازة هنّ مِنَ المومسات المعروفات آنذاك، ممّا أثار فضوله للسؤال عن الميّت، فأتاه صبيّ القهوة ليخبره أنّهن خرجن من المبغى باكياتٍ حزنًا ولطمًا على قوّادهن المُفضّل “داوُد اللمبچي” نسبةً إلى مهنة تغيير زيت لمبات البلدية في الشوارع آنذاك، داوُد الّذي اعتادَ أن يرتدي لفّة رأسٍ حمراء “شماغ” كانت شهرته قد وصلت عبّود أيضًا وهو الّذي يعمل كلمبچيٍّ مساءً كما كقوّادٍ أثناء النّهار، حبُّ المومساتِ لهُ جاء من شهامةِ علاقتهُ بهنّ واحترامهِ ورعايتهِ لهنّ كما لوسامته وفتوّته، وهو الشّهير كلمبچيٍّ بطولِ القامة وقوّة البدن.
كتب عبّود الكرخي قصيدته الشّهيرة عن داوُد، وتمّ تناقلها مجتمعيًّا (لا رسميّاً) في المجالس الخاصة بسرعةٍ كبيرة كموروثٍ شعبيٍّ غير مُدوّن لحسّها السّاخر كما لطرافتها وتصويرها جانبًا هامًّا من الذّاكرة الشّعبيّة العراقيّة تلك المرحلة عن طبقةٍ مجتمعيّة جعلَ عبّود الأسماء الصّريحة دليلًا عليها كفطومة زوجة اللمبچي أو البادي مساعده. رشيد القندرجي مطرب المقام المعروف كان هو أوّل من غنّاها لكنّها لم تُسجّل على اسطوانة، ليقولها لاحقًا يوسف عُمر في حفلةٍ خاصة و تُسجّل دونَ علمه. الكرخي وقبل موته بفترةٍ وجيزة ضمّ القصيدة إلى ديوانٍ أطلقه في بيروت بنسخٍ معدودة “ديوان الأدب المكشوف”، ليتمّ تصويره استنساخًا لاحقًا في بداية التسعينيّيات وبيعه في بغداد. أحدُ المحامين المُهتمّين واسمهُ عبّود الشالجي كان قد جمع القصيدة كاملةً ضمن كتابٍ أسماه موسوعة الكنايات العامة البغداديّة.
آلأغنية بصوت يوسف عمر
المراجع
↑1 | علومه: أخباره، كومو: قوموا، دنعزي: لكي نعزيّ. |
---|---|
↑2 | يهوه: أين هو |
↑3 | كواده: قوادة، مكرن: مقرّن من القرن |
↑4 | بفادي: بفؤادي، نياچ: نيّاك |
↑5 | البادي: اسم مساعده. |
↑6 | القرون بباب بيته معلّقة، وثيابه من مسح الأيور ملتصقة |
↑7 | ميتته لم تحصل من قبل، والبقاء لكس فاطمة |
↑8 | مُخاطبًا ابراهيم بيك زوج فاطمة الجديد أنّ عليه فقط أن يؤمن لها الأيورة والخصيات وهي ستتكفّل بإخباره عن العدد كما بالثياب الداخليّة |
↑9 | مخاطبًا ابراهيم بيك الملقّب بالطنبوري أن يتلقّى ويبلع ما قام باختياره، حليس يعني حليق شعر الوجه، حجي: حكي. ويخبره ألا يلتفت للكلام الذي سيسمعه |
↑10 | الكلجية: اسم منطقة سبق ذكرها وتعني بيت الرؤوس، يصف طريقة مشي داوُد المتباهية في منطقة الكلجيه |
↑11 | الشماغ: لفّة الرأس، وعصفوري هي إحدى طرق لفّه، يتأسّف أنه لم يبق سوى ثيابه |
↑12 | ديوس: ديوث |
↑13 | يحق لفطومة من شدّة حزنها أن تنام معه في التابوت |
↑14 | لن تلتقي فطومة بمثله، عكروت بمعنى المحتال وتستعمل للقوّاد، ويقول أنّ خدمتها له كانت معروفة |
↑15 | شاع عنه سلطته على القُحّاب، الجنجلي القرخ أي فرخ القوّاد الصغير والمقصود هو البادي |
↑16 | النيّاكة بعد وفاته أصبحوا رمادًا وهباء، يا ليت الكلجيه تهدّمت بعده |
↑17 | قوموا نعزّي الأسماء المذكورة |
↑18 | ما أظّن أنّ داوُد سيعود |
↑19 | يحكي عن بادي أنّه يغسل بالطشت وهو ماكان شائعًا عن القوادين غسلهم الأقمشة الّتي يقدمونها لمسح أيورة زبائنهم، ويقول عنه جويهل أي تصغير جاهل، وشفاف الشخصية، شاب صغير لم ير من حياته الكثير بعد |
↑20 | صدّق أنّ بادي كان للمبچي كما جك ندّاف القطن أي القطعة الصغيرة التي يضرب بها الخيوط ليخرج القطن ثم يضربه مجددًا بعودٍ في يده الأخرى، ثمّ يشبه حالته بجرة العرق مكسورة الرأس |
↑21 | يخاطب فطومة الفقيرة أنّها وقعت في مشكلة كبيرة حيث غاب عنها الكبش وذلك تلميحًا للقرون |
↑22 | أبو قرن قوي نطّاح وسمين، وله وقفات معروفة في منطقة الدربونة وهي منطقة مزاولة مهنته |
↑23 | سخرية من داوُد، كويويد: تصغير قوّاد، هبّار يعني طماع، كرنان أي قرنان |
↑24 | أنت يا صاحب الخرق شاع اسمك في البصرة أقصى جنوب البلاد وتنومه إحدى أبعد ضواحيها |
↑25 | يحقّ لفطومة ارتداء السّواد على المعفرت “من العفريت” |
↑26 | أبو قرن جبّار كل قحبة تتألمّ عليه اليوم |
↑27 | المقصود بالبيك ابراهيم الطنبور |
↑28 | داوُد كان له قرنان فقط، ابراهيم تزوّج فاطمة بعده فسيمتلك أربعة مشندخات أي ممتدات وطوال |
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.