بيسان نوران.
لم تكن الحواجز في دمشق نزهة لطيفة للعابرين اليوميين في هذا المكان الضيق المزدحم المخنوق أصلًا بالكثير من الازدحام والمعارك الفرديّة بين السّائقين، حينما بدأَت الحواجز في منتصف عام /2012/ تكتسح المدينة، كانَت مثل هجمات سريعة على الطرق الرئيسة للتفييش والتفتيش، لم يعرف أحد ما الذي تريده بالضبط، ربما وعلى أقل تقدير الكثير منها كان للترهيب لا للتفتيش، ثم تباعًا صار لها مواقف رسمية، وعناصر متواجدون 24/24، وأهداف واضحة _رغم تنوعها_ بات الجميع يعرفها.
ومن حاجز لأخر أصبحَت رحلتي اليوميّة ذات النصف ساعة داخل المدينة المرهقة تأخذ حوالي الساعتين والنصف، هذا مع العلم أن معرفة خريطة المدينة وخريطة الحواجز أمر أساسي حتى للبقاء في معدل تحت الثلاث ساعات، بالإضافة طبعًا لشطارة بعض السائقين المحنّكين، وقدرتهم السحريّة على الهروب بين الأزقّة والحارات تفاديًا للحواجز المميتة.
بالطبع كلمة مميتة هنا مجازيّة، رغم أن الموت بكل الأشكال والأصناف أصبح أمرًا عاديًا، لكن مفهوم “المميتة” هنا أي الحواجز التي تأكل الوقت بنهمٍ شديد، حيث أن الجميع يعرف أن الدخول على حاجز شارع بغداد يعني البقاء حوالي الساعة في الأوقات العادية وأكثر بكثير أوقات الذروة، وكذلك شارع الثورة، وباب توما وما إلى ذلك.
وإذا ما قصر الله من عمرك، وجعلك في لحظة يأس تتخذ من إحدى هذه الطرق مسارًا لك، فعليك بالتأكيد أن تتعلّم الصبر والصمت واللاشيء، هو اللاشيء فعلًا، فإذا ما وقفت أمام الحاجز سيبدو أن أي فعل من أفعالك العادية مراقب ومثير للشبهات، فهو اللاشيء، أو أكثر ما تستطيع من اللاوجود هو ما عليك أن تفعله، ربما تتأمل الرصيف وتعد بلاطاته مرارًا وتكرارًا، أو أن تتذكر كلمات أغنية ما وتحاول أن ترددها في عمق أعماقك، أو تخاطب ذاتك بموضوع مهم لم يتسنى لك حتى الآن أن تفاتحها به، أو في أسوء الأحوال أن تعدّ السيارات والباصات أمامك وخلفك وعلى جانبيك دون أن تميل.
ويبدو أن كل ما سبق لم يكن كافياً في هذه البقعة من الكوكب، حيث بدأت الحواجز تنتظم بطريقة توحي أنها ستستمر للأبد، وبالطبع فوقع الكلمة ليس غريبًا علينا ويشبه كل شيء في هذا المكان، بدأت الحواجز تجلب السواتر الإسمنتية لتخطّ حدودها وطرق العبور داخلها، لم يكن الأمر أكثر من آلية سريعة ربما لتوضيح بعض الأمور لنا نحن المتواطنين المهتمين بعبور هذه الفخاخ يوميًا، لكن بشاعة الإسمنت الذي اكتسح كل شيء _والذي بصراحة لم يكن مثيرًا للاشمئزاز بالنسبة لنا أبدًا_ يبدو أن هذه البشاعة شوّهت الشام، وأهل الشام، وياسمين الشام.
لذا قررت جمعية غامضة، ادعت أنها “بصمة شباب سورية” أن تلوّن لنا حياتنا على الحاجز، وأن تصبغ هذه الكتل الإسمنتية ببعض الألوان، بالطبع وبالتأكيد أخذت رسمة العلم الرسمي حصّة الأسد، ولكن الحسّ الفني العالي لدى أبناء الجمعية الشبابية! جعلهم يقومون ببعض “الحركات” مثل كتابة اسم سورية ملون على إحدى الكتل في مكان ما، أو إضافة شعارات حماسية للجمهور وهتافات هادفة، وبالطبع اقتصرت هذا الطابع الفني على بعض الأماكن دونًا عن الآخر لأسباب لا يجهلها أحد، ولكن متّفق عليها بالكتمان، فانطلقت شوارع وسط المدينة وكفرسوسة وساحة الأمويين والمالكي بحواجز جميلة وأنيقة وملونة أيضًا.
هكذا وتباعًا وجدنا ما يمكن أن يسلينا على طريق الحواجز الطويل، وأصبحت قراءة العبارات مرارًا وتكرارًا والتركيز على المستوى اللوني ودرجة الاتساق أمرًا جديدًا ومبهرًا، ولكن وكما نصف الأغنية التي تعلق في رأسك وتجعل نهارك تعيسًا في البحث عن حلّ لها، جاء ذلك اليوم المغبر من أيام تشرين الأول 2015، حينما كنت أقضي على ما تيسر من صباحي على حاجز كفرسوسة العظيم!
يومها كانت بعض الكتل الإسمنتية الجديدة الملونة قد دخلت حيّز الخدمة، وارتصفت على الطريق الجميل بجانب “الشام ستي سنتر”، براقة وحلوة أربعة كتل مرصوفة بعناية بجانب بعضها متعانقة بحشمة وممهورة بالكلمات التالية تباعًأ: “إني”، “اخترتك”، “يا وطني”، “حباً”. قرأتها مرارًا وتكرارًا، ملونة وجميلة وبراقة ولكن منقوصة!…بحثت جيدًا بعيني، بحثت مليًا في كافة الكتل المحيطة والبعيدة على مرأى البصر، أين “وطواعيةً”؟ أين خاتمة الكلام؟ أين النهاية؟ ولكن للأسف لم تكن الكلمة الأخيرة موجودة، أصابني القلق، مشى رتل الحاجز قليلًا للأمام فاستطعت أن أمدّ رأسي وأتابع البحث، ولكن كأنما شبح ما خطف النهاية من مطلع الأغنية التي دارت في رأسي كناقوس الخطر، كانت الأغنية في رأسي تكتمل بينما لم تكن كذلك على أرض الواقع، وغادرنا الحاجز دونما أثر لها.
صار الحاجز تباعًا أكثر بؤسًا بالنسبة لي، لم تعد تغريني الألوان على الكتل الإسمنتية، ولم أعد مهتمة بقراءة العبارات التشجيعية، وعدت إلى عدّ بلاطات الرصيف وفتح حديث تافه مع آخري المتخيّل، وكذلك جاء المطر ليشوه اللوحات الفنية تلك وصارت الألوان باهتة من جديد، وبقي مطلع الأغنية بلا نهاية.
إلا أنني عدت ووجدت ضالتي بعد شهر تقريبًا، كنت أمر من ساحة الأمويين عبر طريقي الروتيني اليومي حينما توقفت بي التكسي فجأة، لم يكن ثمة حاجز ولا ازدحام مروري بل كانت ناقلة كبيرة تضع بعض الكتل الإسمنتية حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، ومن بين كل أكوام الكتل الملونة المختلفة رأيتها، كانت هي حزينة وحيدة وجديدة، كانت تقف شامخة في زاوية حديقة التلفزيون: “وطواعية” مكتوبة بالأسود ومزدانة بالورود، جميلة باهية، ابتسمت دون شعورٍ مني، ابتسمت كأني عانقت للتو صديقًا قديمًأ، وشعرت للحظة قصيرة أن كل شيء على ما يرام وأن “سورية بخير”.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.