الموسيقى التي تأتي وحيدة دون أن يُمسك أحدٌ بيدها إلينا ، وحيدة دون أن تصحبها ذكرى أو إشادة أو توصية. المجهولة كطفل رضيع وُضِعَ أمام باب منزلنا في جنح الظلام. الجديدة كحواء خُلقت للتو نقية، رقيقة وخفيفة كالمطر. حالها حال الألبوم المنسي لسنوات في مجلّد الموسيقى خاصتي. أُعجبت بغلافه الأحمر فتركتهُ يداعب نظري دهراً دون أن امتلك الجرأة على فضّه والاستماع إليه لكن
…وحين فعلت
والموسيقى الجميلة خجولةٌ بطبعها، لا تتبختر بمشيتها الواثقة أمام شبان الحي بل تختار الطرق الطويلة إلى مرآة النهر لتستعرض عليها انعكاس قسمات وجهها المليح.
لا تدركها العين والأذن إن جلست وسط أترابها، رغم كونها أوفرهنّ حسناً ودلالاً
غامضة وسرّية، ومتلثّمة إلّا لمن كان بها خبيرا. ما أن تداعب مفرق شعرها حتى ينسدل شلالاً من نور ونار، كمارد نفَض غبار قمقمه ولفحَ أنفاسك.
وتُحار في أمرك وأمرها! كيف احتجبت عنك تلك الجميلة لسنوات و باب منزلها مجاور ونافذة غرفتها ملاصقة!
وتأخذك الدهشة مراراً متفكّراً في كلّ تلك العبارات: ” الأذن تعشق قبل العين أحياناً ”، “الحبّ من النظرة الأولى” وتدرك أين قيلت وفيما قيلت ولما قيلت
وتسمع المرة تلو المرة، لا استزادة في العشق، بل محاولة للفهم وإدراك سرّ التجلّي وسبر العوالم والحيوات والأرواح
وتدرك أخيراً ومتأخّراً وأنت على فراش الموت أن الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة كانت الموسيقى وما الحياة إلّا رحلة أصوات. صرخة ولادة، شهيق وزفير، آهات الألم والسعادة والنشوة والبكاء.. وفي النهاية شهقة الموت.
والموسيقى الجميلة لا يُباح بها للغرباء، وعابري السبيل، وتفقدُ شيئاً من جذوتها أمام الحمقى، وتنقم على من يفرّط بها
ألم تسمع بموسيقى خَنقت أصحابها؟
ومن يسلّم بنفسه إلى الموسيقى كمن أسلم روحه إلى الله، ترتفع به خفيفاً واثقاً إلى الأعلى ومنّ أحبّه الله يهبهُ من الموسيقى لدناً وشريكاً يسكن إليه. ويخلق له كوناً موازياً يضاهي جنّته الموعودة
وترف الموسيقى أنها قد تأتي في صوت! صوت واحد فقط. صوت سنونو الصيف مثلاً. هذا الصوت الواحد كفيلٌ بأن يسحب وراءهُ كرنفالاً من الحواس.. صوت والدتك المتذمرة من أعشاش السنونو في بيت النافذة، رائحة الصيف الباكر هذا العام، ضوء العصر الجميل، الإجازات المنتظرة، الثياب الخفيفة، ونداء: “يـا شام عاد الصيف”.
وترف الموسيقى أنها قد تأتي في صوت. صوت واحد فقط، ضحكتك مثلاً!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.