كُبّة الصوف تتدحرج، تستقر وسط الغرفة ذات الأرضيّة الخشبيّة، يدي تحاول الإمساك بطرف الخيط، تتأرجح ولا تفلح… فأقرر أن أنتظرها بكل سذاجة لتعود وحدها. كان هذا الإخفاق الثالث، سبقه فشل في إنارة ضوء الغرفة وقرار بأن أعتمد على ضوء القمر وكسل في تحويل قارورة الماء إلى مزهريّة.
عشت في بيوت عرف أهلها دائما كيف يعيدون استخدام الأشياء، لم يكن من الغريب مثلا أن تمتلئ قنينة ال” كوكا كولا” بحبات الزّيتون، ورق العنب أو التّوت الشامي. ولم يكن مفاجئا أن تتحول علبة البسكويت إلى علبة خياطة، مرطبان المربى نخبئ فيه النعنع اليابس ولا نتخلى عن زاوية لأوانٍ وعلب بلاستيكية نسميها: “ربما احتجناه يوماً ما“.
كنت مريضة، اشتدّ بي المرض فصارت أبسط الأشياء معركة، حتى إنّي كدت أغرق في فنجان الشاي، ترنّح جسدي على حافته وارتجفت شفتاي. تتالت الإخفاقات وازدادت هشاشتي. الفعل الوحيد الذي نجحت به هو أن أرخي ثقل جسدي على السرير، لم يكن أمامي سوى سقف الغرفة لأعيد استخدامه.. صار السقف مسرحا.
في أحد المشاهد أرخيت خصلات شعري على حضن أمّي، وانتظرت أن تنسج منها ضفيرة، تأخرت أمي ولا زلت أنتظر لكن لا بأس، كنت أشعر أن الانتظار يحمل في معناه شيئا من الرفض للحظة الراهنة، نسرع أو نستعجل الوقت، نبحث عن الطرق المختصرة للوصول إلى مكان ما، نتسابق مع أضواء إشارة المرور ونجازف أحيانا ولا أدري لِمَ كل هذه العجلة، وكيف هو المجهول الذي نسرع نحوه كما لو كنّا على يقين من ماهيته! صرت اليوم أستمتع في الانتظار، في كل مرة يتأخر فيها القطار مثلا عن موعده أٌفرح لأني أملك دقائق إضافية لأكمل السّيناريو الذي في رأسي، شخصياته تتغير بتغيّر المحطة، أنسج حوارات بين الأشخاص وأتخيل نفسي قادرة على الاستماع إلى صمتهم.
في مشهد آخر، كنت أسير بين أجساد بلا رؤوس، رؤوسها أخفيت تحت صناديق سوداء اللّون، لا فرق بين طريق ذهاب أو إياب، تتخبط الرّؤوس في فضاء الصناديق، وتضيع الأجساد في مدن فارغة ممتلئة في آن واحد، أقول : “نحن وحيدون، لكن معا “. وحدي كنت قادرة على مشاهدة الصناديق، وقبل أن يسقط أحدهم على رأسي، بدأ المشهد التالي..
كان المشهد هاربا من زمن قديم، بخلفية بيضاء وسوداء اللّون، وكنت معي بشعرك الأرمد، كانت فرصتي لأراك كما أحب، بالبطء الذي أتمناه بعيداً عن سرعة أصابت علاقاتنا فانتهى بعضها حتى قبل أن يبدأ، راقبت طريقتك في الكلام رغم أنّي لم أسمع حرفا مما قلت، لم يكن ذلك مهما، كان يعنيني تأمل تفاصيلك، كأن أراقب كيف تمتدّ ابتسامتك بأناقة، وكيف تميل برأسك إلى اليسار في كل مرة يهرب منك الكلام فتنظر إلى المدى البعيد وتهز رأسك ببطء بإشارة لا تقصد منها الموافقة بتاتا إنّما اعتراضك على الأشياء محمّلاً بالعجز. رقصنا، وكانت حركاتنا متناغمة، خطواتنا بطيئة لكنّها واثقة، أميل بجذعي ورأسي إلى الوراء ويدك شرفتي على العالم، لاشيء سوى الخراب وحبّك الذي يشبه مساحة أنفاسي على زجاج نافذة في ليلة شتويّة، أمسحها بكفّي ليغيب الضباب, فأرى وجهي وما خلف النافذة من أسرار!
أهمس: ” وجهك مرآتي..”
تمازحني: ” قد أنكسر ..”
أجيب: ” تعود رملا .. و أصير موجة راقصة أو صدفة فأخبئ لك البحر في قلبي “.
لم أسمع ما قاله بعدها، فأنا الآن على سقف غرفتي، أخرج من جسدي مع كل النساء اللواتي سكنّني، إحداهنّ ترقص، كان في داخلها رغبة بأن تصبح راقصة شرقيّة . تشعل الثّانية سيجارة و تجلس غير آبهة في زاوية المسرح، لطالما حلمت بلحظات تدير فيها ظهرها إلى هذا العالم بما فيه و أنا على السرير ألملم ذاتي المشتتة على مسرحي المتخيّل.
أوشك العرض على الانتهاء، ولابد من عودة كل اللواتي حاولن الفرار إلى جسدي الضيق، لا ستائر لأسدلها، كان يكفي أن أرغم جسدي المتعب على تغيير اتجاهه، فصار وجهي مقابل أوراق ملاحظات لمواعيد قادمة تبدأ بعد عدة أيام أو شهور، أفكر باليقين الذي يدفعنا إلى الموافقة على هذه المواعيد المستقبلية في حياة عبثية المصائر، ما الذي يضمن أنّنا سنلتقي بعد شهر وأسبوع، أو ربما يمكن أن تكون فرصة لسعادة صغيرة بأننا انتصرنا على موتنا كل يوم وكان اللّقاء…
لو أن المرض يصيب رأسي المشوشة فأتوقف عن أسئلة لا أجد للإجابة عنها سبيلا.
لو يخفت ضوء القمر قليلا وأصير خيط صوف يختبئ في قلب كُبّة تدحرجت واستقرت في وسط الغرفة.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.