في مدينة ميونخ، حيث أقيم منذ سنتين، وكجميع الغرباء الجدد في أي بلد جديد أحاول التأقلم والإندماج بهذا المجتمع، لكني أستخدم الإندماج الخاص بي لضرورات ترفيهية تعينني على البقاء في ظل كل الأشياء اللاجميلة.
وفي خضم الحرب والهروب وازدياد أعداد الهاربين من النار، والهاربين حتى من أنفسهم ومن كل شيء تركوه خلفهم. حلّ السوريون على رأس قائمة الهاربين، اعتماداً على التقارير المغولطة للحكومات الأوروبية وما يتبعها من وسائل إعلام، حيث باتت كلمة (اللاجئون السوريون) الأكثر تداولاً في كل مكان حتى في أوساط اللاجئين أنفسهم. فاللاجئ السوري بات الأشهر والأكثر حسداً بين أقرانه الآخرين. وبدأ الأفغاني والعراقي واللبناني وغيرهم ينظرون إلى السوري وكأنه الناجح الوحيد في الامتحان، والوحيد ذو المستقبل الجميل والذي سيتقلد مناصب الحكم في هذا البلد العجوز.
وحال فتح حدود الجنة (الحدود الأوروبية) كما يصفها من لا يعرفها، تدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين المساكين وكنت حينها متطوعاً في أحد المراكز كمساعد ومترجم، للمساعدة في استقبال هذه الأعداد، كنت أقضي معظم وقتي في ذلك المركز وهذا شيء كان محبباً لي صراحة.
كان من أهم ميزاتي في هذا العمل أنه يلصق على صدري ورقة كتب عليها (عربي)، وبذلك يمكن لأي عربي التواصل معي لمساعدته في الترجمة أو بأي شيء يطلبه، كإنهاء الحرب في سورية أو منحه الإقامة خلال يومين أو أن أبحث له عن عروس، نعم عروس ألمانية شقراء حصراً. حقًا لا مزاح في ذلك ، ألم أقل أننا مساكين! كنت أشعر بمعاناة الكثيرين وأستمع لهم باهتمام. كانت نقاشات وحزن وشكوى وكأننا أصدقاء أقصانا الزمن لمدة ليست بقصيرة، وعدنا والتقينا.
رأيت في عيونهم ذاك الوطن… وأنا الهارب الوحيد.
هذا لا يعني أنهم ليسوا عكاريت حيث أنهم يستنفذون هاتفي وسجائري، وانتهاء سجائري يعني الكارثة لي ولمن حولي، لكنني حقاً كنت سعيداً بهم، أرى جراحي في قصصهم وجلودهم، أرى مآسي فاقت مآسي العابدين في سر دعوتهم.
ازدحام هائل. متطوعون كثر. متطوعات شقراوت. وأنا أجول بين الناس. يأتيني نداء عبر اللاسلكي من داخل صالة تسجيل الوافدين للحضور بسرعة. عائلة سورية وصلت للتو منهارة من البكاء. لا يقوون على التحدث من التعب و يتملكهم الخوف. انتهى النداء.
كانت على مسمعي كنفخ إسرافيل في الصور… لا إحم ولا دستور.
هممت مسرعاً بالذهاب الى هناك، لكنني رويداً بدأت السير ببطء. بخطوات مترددة، خائفة مرتعدة، رأسي بات منحنيا إلى الأمام، ويجول في بالي، أي قصة حزينة في جعبتهم، أي كابوس سيلزم أحلامي هذ الليلة، كيف سأبدأ معهم؟ ماذا سأقول لأهدئهم. يبدو أن الحياة غلبتهم وصفعتهم ونالت من كبريائهم بالقدر الكافي حتى يصلوا إلى هنا وهم خائفون متلعثمون لا يقوون على شيء.
حسناً سأبدأ بالقول لهم: لا تخافوا أنتم بمأمن من كل شي. لا لا يبدو ذلك سخيفاً، حتى هنا لا يوجد أمان كافي لمن اعتقد أنه وصل أخيراً. أو أبدأ بالمزاح وأقول لهم (يا مرحبا بالضيف)، سيبدو حقاً سخيفاً دون قهوة عربية وطعام جله من اللحم والسمن يتلو الترحيب. لم أشعر بالضعف والخوف مثل ذلك من قبل، لم أكن أدرك أن آلام العباد فاقت جروح المسيح في صلبه.
حسناً، ربما أنا فقط خجلٌ أمام معاناتهم وما قاسوه في رحلتهم الى بلاد البرد. لا بأس، سأدخل وأبدأ بـ (السلام عليكم)، لعلّه يحل على قلوبهم قليلًا من السلام.
دخلت ووجهي تملأه ابتسامة فرِحة، تستقبل خوفهم المريع، وتريحهم. لكنهم قتلوني بعد السلام عليكم، بدون رحمة الله ولا بركاته، بلغة لم أفهم منها شيئاً.
لم أكن أعلم أن آلام السوريين ومأساتهم أصبحت أدوار تمثيلية يتم التدرب عليها في أفغانستان، وأوروبا الشرقية وغيرها، بغية تقلد مناصب الحكم في أوروبا الباردة. أما اللغة العربية فستبقى عصية أبد الدهر، ولا يتقن الغرباء منها إلا: السلام عليكم.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.