تميم هنيدي
في حربٍ طاحنةٍ كالحرب السوريّة، يتصدّر الموت عادةً قائمة أهمّ العناوين، فنرى الشّرائط الإخباريّة وهي تختنق بعشرات القتلى والمخطوفين يوميًا، وتشتعل حماسًا بفعل المعارك وتطوراتها، وبين انتصارٍ هنا وهزيمةٍ هناك، وقتل وذبح ومفاوضات وطرق مسدودة، من عساه يملك فائضًا من الحزن حتى يذرف الدّمع على آلاف الأشجار التي اغتيلت ومُثّل بها ؟ وهل خطر لنا سابقًا أنّ هذه الأرض التي أصبحت مساحات من التراب الأصم وبقايا التّاريخ، يمكن أن تَستفزّ وقفة جماعية حازمة، كما لم تفعل هزائمنا الأخرى طوال الأعوام الستة الفائتة ؟
”أبناء السنديان“، كما أطلقوا على أنفسهم، هم ”جميع من أحبوا هذه الأرض السورية برمّتها، وبما عليها من بشر وحجر وشجر“، فهم الصغار والكبار، النساء والرجال، من مختلف الأعمار وفئات المجتمع في محافظة السويداء، الذين لم يرضوا أن تُغتصب الأرض أمام أعينهم، فهبوا نصرةً لسنديانهم، وراحوا ينظمون حملات جماعية لغرس أشجار جديدة، أدت حتى اللحظة لزرع أكثر من ثمانية آلاف شجرة خلال شهر واحد فقط، في ظروف جوّية صعبة، ومعيشية أصعب، كما سعت هذه الصحوة الشعبية إلى نشر الوعي حول أهمية هذه التحركات التطوعية وأثرها على النظام البيئي وعلى المجتمع كاملاً.
تضم محافظة السويداء أكثر من ثلاثة ملايين شجرة سنديان، يصل عمر بعضها للثلاثمئة عام، قضتها شامخة بينما بدأت الحروب وانتهت، وأتت أجيالٌ وبعدها أجيال، وبقي الشجر يشهد على حاضرنا، عامًا تلو العام، بانتظار الغد الأجمل. لطالما اقترن اسم هذه المحافظة الجنوبية ببازلتها وسنديانها، وتفاخر أهلها بالثوب الأخضر الذي يغطي جبالهم ويميّز منطقتهم عن مناطق أخرى، فالسويداء، كما حال باقي المحافظات غير الصناعية، تضع اهتمامًا كبيرًا على الزراعة، وتعتبره مصدر الدخل الأساسيّ للكثير من أبنائها الذين يرون الأشجار جزءًا لا يتجزّأ من الماضي والمستقبل.
استمرّت هذه الحالة حتى أرخت الحرب ثقلها على السوريين، فتنوعت الجرائم والمصائب، وانشغل الجميع بالمطبات التي تواجههم منذ أعوام، أما تلك الشجرة العجوز التي ظنّت بأنها باقية لتشهد نهاية هذا الموت، سقطت ضحية له، ووُضعت النهاية لعمرٍ امتدّ مئات السنوات، لينتهي الخشب في صناديق السيارات، سلعة جديدة تروي جشع الحرب وتجّارها.
هذه النهضة الشعبية التي أكدت مجدداً على اتساع خيارات العمل المدني السلمي في سوريا، ضمّت حتى اللحظة أكثر من خمسمائة متطوع ومتطوعة، منهم من يغرس ومن يُشرف ومن يوزّع الطعام والشراب، ناهيك عن الذين ساهموا بالمواصلات والتكاليف الأخرى، هؤلاء قد تفرقهم أشياء كثيرة في هذه الحرب، لكن ما جمعهم الآن أقوى. فها هم يتهافتون للزرع تحت عنوان ”معاً ضدّ من يقطع، معًا لنزرع“، تاركين خلفهم كلّ التيارات والتصنيفات، ليجتمعوا تحت هذه الراية النبيلة.
الملفت هنا أن هذه الحملة تعدّت كونها موجهة للزرع تعويضًا عن الأشجار المقطوعة فحسب، بل أصبحت عنوانًا للعمل الجماعيّ والمدنيّ، فرأينا الأمهات يزرعن الأشجار بأسماء أولادهن المغتربين مثلًا، والأصدقاء يغرسون بالإنابة عن أصدقائهم، كما انطلقت مؤخرًا حملة تشجير كاملة تخليدًا لذكرى شهداء الهلال الأحمر الشباب، الذين قضوا بحادث أليم أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني.
و”أبناء السنديان” لم يكتفوا بذلك، بل أخذوا على عاتقهم أيضًا مهمة نشر القيم الضرورية، الآن أكثر من أي وقت مضى، كالترفّع عن الخلافات والانقسامات لمصلحة الوطن، وتعزيز التلاحم الإنساني البعيد عن الخلفيات السياسية والمذهبية، لهذا حرصوا ألا يتم ربطهم بأي تكتّل أو مرجعيّة، وظلّوا متمسكين بشمل كافة مكونات المجتمع ضمن هذا التعاون، آملين أن تمتد المشاركة لتشمل كافة المحافظة وتحفّز عملًا مشابهًا في مدن أخرى، تعاني من ذات الجرائم بحق الطبيعة.
أثناء تصفّح الصور المنشورة لمجموعة ”أبناء السنديان“ على موقع التواصل “فايسبوك”، ستستوقفك حتماً لقطات كثيرة جديرة بالإحترام والإعجاب، لكن مشاركة الأطفال الواسعة قد تكون أهمها، بصورهم الكثيرة أثناء حملات التشجير، يغرسون ويحفرون ويراقبون، منهم من لم يكمل عامه الرابع بعد، حينها لابد أن يتسلل شعور الطمأنينة إلى القلب كنسمة ناعمة، فمن يتعلّم حبّ الأرض هكذا في الصغر، كيف له أن يخونها حين يكبر؟.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.