نور فليحان
في الباص أرغبُ دومًا في الجّلوس إلى جانب النّافذة، لا حبًّا في مشاهدة معالم المدينة، هي دهشة المدن الأولى التي تغيبُ بعد حين لتغدو في لحظةٍ ما كلّ المدن سواء!، أفعل ذلك رغبةً في البحث عن سربٍ من الطّيور في السّماء، أراقبه، أسابقه، وأفكّر: ما لو كان لي جناحان؟.
في الباص أيضًا أُصغي جيّدًا للأحاديث من حولي، يُغريني السّحر الكامن في الصّوت البشريّ، وكيف لنبرةٍ أن تُذيب قلب صَبيّة، أن تهزّ القمع وأن تُهدهد خوفها لينام، تقول لهُ ”نعسانة“ فيصير كتفه وسادة؛ ماذا لو كُنّا آلات موسيقيّة مُتحرّكة؟.
في المَقعَد المُقابل شابّ سيظنّ غالبًا أنّني مجنونة، فأنا في الباص وحيدة بلا رفيق ولا مُبرّر لابتسامتي، كيفَ أشرحُ لهُ أنّي لستُ مجنونة لكنّني فقط أحلم، أحلم أثناء اليقظة لا في الغفو.
تُرى ماذا لو كنتُ راقصة فلامينگو؟
كنتُ سأجد مُبرّرًا غير الخجل حين أبوحُ أنّي ”أشتاقك“، ربّما هو انعكاسُ لون فستاني الأحمر على وجهي، كنتُ سأضرب الأرض بكلّ عنفوان فلا مكان في هذه الرّقصة لخطوات مُتردّدة، كنتُ تلذّذتُ بلعبِ دورِ المُشاكِسَة، أرفعُ فستاني على مهل، وما أن أسمع صوت إيقاع قلبك يعلو حتّى أتابع دوراني غير آبهة!.
كنتُ سأخبركَ أنّي أضعتُ الكثير من الوقت في اختيار البرنامج القادر على احتساب عدد الخطوات التي أقطعها خلال رياضة المشي وعدد السّعرات الحراريّة التي أفقد، حتّى أدركتُ أن هنالك طرق أُخرى لقياسِ الأشياء.
اليوم أتسابق مع الشّجر، أو أقيسُ المَسافةَ بعددِ الدّوامات التي تَصنعها الأوراق المُتساقطة على سطح البُحيرة الرّاكدة.
أكرهها، تلك المقاييس الجافة.
أيّ قيمةٍ لرقمٍ يَعكِسُ مِقدارَ كتلة اللحم والعظم في جَسدي طالما لا يُشيرُ إلى انحناءة خصري، طلاء أظافري وابتسامتي؟
الحبّ أيضًا، لا يُقاس إلّا بالشّغف، كأن تَجعَلني حبّة كستناء تتوق للرّحيل عن غصنها للاختباء في أرضك.
تُرى ماذا لو عُدتُ طفلة؟
كنتُ سأعيدُ ترتيبَ الحكاية، أشعر بأنّي ولدتُ مِرارًا وأنا على قيد الحياة، كما بعض الولادات العسيرة، كثيرةٌ هي الأشياء التي تغيّرت، مع الأيام أكتشفُ كم الحقيقة التي أخفيت عنّي، و ربما عنك.
الظّلام لا يُخيفني، تُخيفني قلوبٌ لا نورَ فيها.
الكذبُ لا لون له، الحليبُ لا يصنع الأبطال، شَعري ليس أشقر، ولا يروق لي ذبح طير الحَمام، تغيّرت الأسماء والأغنية واحدة، ضُحِكَ علينا لننام!.
أحلمُ لو يَطول الطّريق قليلًا، مَسافة محطّة واحدة تَفصلني عن الواقع، محطّة واحدة فقط!، سأُلملِم أحلامي الصّغيرة لرحلةٍ قادمة،
لكن،
ألسنا جميعًا أحلامًا مُخبّأة؟.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.