بقلم: مجهول.
الكاتب والقَصَاص
رواية قصيرة من ثلاثة فصول
· (الفصل الأول: الرأس في صداع عادي)
i.
· أكان ضرورياً أن تقتلها؟
· مممم في الواقع لا! آه، لحظة، بلى كنت أكرهُها
· وهل كلّ الذين نكرههم…
وقبل أن يكمل المحققُ عبارته صرخ الكاتب بوجهه:
· من أنت لتسائل خيالي؟، أنا أكتب، مهنتي الكتابة واختلاق الشخصيات، وغير مسؤول عنها بعد ذلك أماتت أم عاشت، سمّ أفعالي بما تشاء خيالاً، تهويمات، كذباً، لكن لا تسائلني بهذه الطريقة العنجهية. ثمّ من هذه الـ«سارة» التي تريد الانتقام لها، يا لتفاهتك!
ابتسم المحقق ابتسامته الخبيثة، ثم عدّل من وضعية جلوسه:
· لكن من قال لك إنّي محققٌ أصلاً، الكل يعلم أنّ المحقق شخصية اخترعَها خيالُك المريض، ظنّاً أنّك بهذه الطريقة ستغطّي على جريمة قتلك لسارة.
· كن من تكون يا هذا، كن من تكون، لكن اغرب عن…
وقبل أن ينهي الكاتب عبارته، أحسّ بحماوة أسياخ تمزّق أحشاءه، هي طعناتُ المحقّق، التي تركته سابحاً بدمائه.
ii.
ضجّت المدينة بنبأ مقتل الكاتب، لم يكن الكاتبَ الأوّلَ الذي يلقى مصرعه. مؤخراً باتتِ المدينة مسرحاً لعدّة جرائم راح ضحيتها كُتّاب ومسرحيون وقُصّاص، الجريمة إذن جزء من ظاهرة عامة، بيد أنّ مرتكبي الجرائم السابقة تمّ إلقاءُ القبض عليهم، ولا يبدو أنّ الفاعل قاتلٌ متسلسل واحد، ولا أنّ الجناةَ على صلة أو معرفة ببعض كأفراد في عصابة واحدة.
الكاتب «سهيل العبد» كان أول الضحايا، هو كاتب مغمور لم يسمع به أحد، وُجدَ مقتولاً إثر عدّة ضربات بمجرفة على رأسه، جمجمةٌ مهشّمة بالكامل، وأضلعٌ محطّمة اخترقت رئتيه. القاتلة لم تحاولِ الفرارَ أو الاختباء، نفّذت جريمتها بوضح النهار، بأدوات بدائية وهي تصرخ وتبكي انتقاماً من الكاتب “القاتل” كما وصفته، اجتمع أهل الحي على صرخات «سهيل» الذي مات دون أن يعرف لماذا نزل القصاص بحقّه، أمّا القاتلة فظلّت تبكي قبل أن تلقي الشرطة القبض عليها وتعترف بجريمتها كاملة، مُصرّة أنّها انتقمت لإحدى الشخصيات التي قتلها سهيل في مسرحيته الأخيرة.
بعد سهيل، جاء دور القاصّ المخضرم «عدنان آغا»، الاسم معروفٌ، يدرسُ الأطفالُ قصصه في المدارس منذ الصغر، ويطمح الكُـتّاب الشباب لتقليد أسلوبه الساخر من السلطة. قُتل بطريقة بدائية فجّة، وبدأت الشكوك تحوم حول السلطة ذاتها، لا أحد يستطيع تنفيذ عمليات واضحة ومكشوفة كهذه غيرها، ربّما هي من تستأجر القتلة لتنفيذ عمليات بحقّ معارضين من الصعب إسكاتهم، ويقال إنّ عدنان بالذات سبق ورفض التنويه بمجموعة قصصية أصدرها «الرئيس» بل سخر من موهبته المزعومة ووصفه بالحمار علانية. لكنّ قاتل عدنان حين تمّ إلقاء القبض عليه ردّ سبب قتله ثأراً لشخصية ثانوية كانت قد ماتت في إحدى قصص عدنان التي كتبها في أوّل مسيرته. تحدّثت الصحف بعدها عن أنّ القاتل لم يكن قد وُلِد حين صدرت تلك المجموعة للكاتب المخضرم عدنان آغا.
توالت الجرائم واستمرّت لأكثر من سنتين على التوالي، «أمير عبدالمؤمن» كاتب السيناريوهات البوليسية دهسه عامل نظافة بسيارته الضخمة، أمّا القاّصة الشابة «دعد الجابر» التي كانت قد وقّعت أولَ مجموعة قصصية لها قبل أيام، وُجِدت مخنوقة تحت أحد الجسور، قتلها عجوزٌ هَرِمٌ سلّم نفسه للشرطة، وكان تصريحه صادماً “لن أدع الشباب أكثر إقداماً مني على الانتصار للشهداء”. هذه الكلمة الأخيرة (الشهداء) ستؤسّسُ وتطبع السنتين الأوليين من الألفية الثالثة (2001، 2002) ستتمدد الحالات وتتكدّس جثث الكُتّاب لأنّهم قاموا بقتل إحدى الشخصيات أو حتى ساقوها إلى موتها الطبيعي. باتت الجرائد تغصّ بالتحليلات وانتقلت موجة الاتهامات وتنوّعت من الجرم الجنائي إلى الجريمة السياسية المدبرة من قبل السلطة، إلى التحليلات السيكولوجية التي تعلّلُ سبب الظاهرة بعوامل فُصامية تجعل من هؤلاء الناس (المرضى) قتلة ينتصرون لأي شخصية روائية بمجرّد قراءتهم عنها.
انقسم الأطباء بدورهم حول الظاهرة ورفض قسم كبير منهم نعتَ من يقوم بجرائم القتل ب”المرضى”، بل سخر عميد الأطباء مما تقوم به وزارة الصحّة، واصفاً عملياتها القمعية بالتكفير المُقنّع بأقنعة طبية علمية، وحذّر في تصريح نشرته الصحف من العمليات المنظّمة التي تشنها السلطة ضدّ المجتمع بأسره مستغلّة بعض الكتابات الرخيصة لأطباء باعوا شرفهم الإنساني واختاروا أن يقفوا بصفّ الكتّاب الذين ارتكبوا الجرائم الحقيقية بحقّ شخصياتهم!.
توسّع الشرخ والانقسام، وفكرة الانتصار للشهداء أخذت بالتوطّن أكثر فأكثر في مؤسسات الدولة بأسرها، محققون وقضاة رفضوا إنزال القصاص بالجناة، بل على العكس ارتدّتِ الحملة التي شنّتها السلطة على الجُناة، بحملة أشد بطشاً على الكُتّاب والمؤلفين، وتمّت ملاحقتهم ومحاكمة كلِّ كاتب سوّلت له نفسه قتل شخصية في أي عملٍ أدبي. وهكذا لم ينجُ من الحملة التي شنّها وزير العدل بنفسه إلا بعض الكُتاب الذين سمّاهم ب “الكتّاب الشرفاء” ممّن لم تتلطّخ أيديهم بدماء الشهداء.
نبتَ على السطح أدبٌ جديد تُمجَّدُ فيه قيمُ الحياة والخلود، واندثرت قصص الرعب، وتأسس جيلٌ جديد يحتقر آباءه الذين استهوتهم الحبكات البوليسية الدموية ذات يوم، المفارقة أنّ القوانين الرقابية التي تحذّر الكاتب من أنّ أي شخصية تموت أو تقتل سيكلف هذا الأمر الكاتبَ حياته، لم تعدّل؛ لأنها قضية باتت من المسلّمات، فاقتصرت الرقابة على التشدد في درجات الاقتراب أو التلميح بأنّ إحدى الشخصيات كادت تموت فماذا فعل الكاتب حيالها؟ بالتأكيد لن يتركها لمصيرها فهو يتحسس رقبته أيضاً، ثم صارت مقاييس الأدب والجوائز تنتقي الطريقة المثلى التي تنجو فيها كلُّ شخصيات النص الأدبي من الموت.
iii.
· أكانَ ضرورياً أن تقتلها؟
تردّدَ الكاتبُ في إجابته، وقف مقابل الشرفة أخذ نفساً عميقاً وواثقاً ثم قال ببطء مملٍ وابتسامة خبيثة:
· أنت تعلم أيّها المحقّق أنّه كان يمكنني قتلك أيضاً، أليس كذلك؟
· كذّاب، كذّابٌ وجبان (صرخ المحقق بطيش وغضب) أنت لا تقوى على التطاول إلا بوجه “الشهداء” لأنك تعلم أنّهم شخصيات ثانوية ولا يؤثرون أيّ تأثير بوجه الأبطال المزعومين الذين يقودون رواياتك، لكن ها هم الأبطال الحقيقيون ينتصرون للشهداء، وينتقمون منكم معاشر الكتّاب انظر إلى رفاقك كيف يلوذون بجحورهم ويتملقون السلطة في حملتها ضدّ من تسميهم الجناة، أو يسوّقون للفكرة التافهة التي تقول إنّ السلطة هي من تقوم بعمليات القتل، أوَ لا يعلم أصدقاؤك بأنه لا يمكن لسلطة ملوثة أن تخدم فكرة نبيلة كالانتصار للشهداء؟
· بلى، أنا شخصياً أعلم، أعلم أيها المحقق استحالة هذه الفكرة الساذجة.
· لا تنادني بالمحقق بعد اليوم، أنا منذ وقعت عيناني في عينيّ العجوز أحمد قاتلِ تلك القاصّة المجرمة دعد الجابر علمتُ أنّه على حقّ، وأنّ ما نقوم به في سلك القضاء هو الإجرام الحقيقي، ودعم لكل الكتّاب المشبوهين الذين هم محض مصاصي دماء، والآن لن أسمح لك بقتل «سارة» أيها الجبان.
قهقه الكاتب ببروده المعهود، ثم رمق المحقق المرتجف من جديد قائلاً:
· أنت في الحقيقة لا تعلم ماذا تريد، كيف لك أن تمنعني من قتل سارة وقد بنيتُ النصّ معك على اتفاق واضح؟ أنا أقتل سارة تلك الشخصية البليدة التافهة، ثمّ تأتي أنت لتقتلني انتقاماً لها، ولم أفصح عن اسمك وضلّلتُ قرّائي بأنك محقق وكفى. من أجلِ ماذا؟
· من أجل أن أقتل بعض أصدقائك الذين ينافسونك؟
قهقه الكاتب مرة أخرى
· لا لا، لن أتلذذ بقتلي لأعدائي الكُتّاب وأنا ميّت، هذا هراء، أنا قبلتُ أن أموت من أجل أن تنتصر أنت لفكرة “الشهداء” وتطلق العنان لها إلى آخر الحدود، أنا آمنتُ بفكرة الشهداء وخدمتها أكثر منك، لكنّك خذلتني، فأنت حُزت قسماً مهماً من الناس معك، وهكذا حتى وقفتَ عند حدٍّ عجزتَ عن تعبئتهم جميعاً، بل إنّ كثيراً أصبح يسخر من فكرة “الشهداء” بكتاباتهم وأنت لم تحرّض ضدهم بحجّة أنهم لم يقتربوا من سيرة الموت أو القتل. أنت فشلت في خلق الرعب الذي وعدتني به، بدليل ذلك التطاول والغمز الخفي من أولئك الكتّاب الشرفاء، بل إنّ نصّك بعد موتي جاء هزيلاً ركيكاً، والآن تتحجّج بسارة مرة ثانية لتنجو بحياتك، أنا من عليّ أن أقتلك يا صديقي المحقق، وعليك أن تشكرني لأني ما زلت أحتمل ثرثرتك بين قصاصاتي ومسوداتي، اختر طريقة تموت بها لأنك صديقي فأنا لا أقتل أصدقائي غدراً مثل قتلك لي، لكنك كشخصية لن تنال شرف الشهادة إنما ستحذف بهدوء ولن أسمح لفكرتك القذرة بتلويث نصوصي.
ضحك المحقق بهستيرية وخوف هذه المرّة
· لن تتمكّن مني سيدي الكاتب، وبما أنّ إيمانك بفكرة الشهداء قد انكشف فسوف لن تهنأ بعيشتك، ستتحمّل وزر المجاهرة، سأفشي سرّك للسلطات، سأرتدُّ وأتركُكَ تتلظّى بين نار السلطة وكتائب القديسين التابعة لوزير العدل وعميد الأطباء النفسيين فهما من أشد الأوفياء لنصرة الشهداء، وإن كنتُ قد خذلتك في وفائي للشهداء كما تدّعي، فإنّك سترى بارتدادي شيئاً أشدّ هولاً من ذلك الخذلان.
ارتبك الكاتب وفقد هدوءه، شرد قليلاً وفكّر بمصير سارة، منطلق الخلاف بينه وبين المحقق، ثم عبّ نفَساً عميقاً من سيجارته، متظاهرا بثقة مبتذلة وقال:
· آه كي لا ننسى لماذا أنت هنا، بخصوص سارة أليس كذلك؟ اتركني أفكر حتى الصباح.
· الفصل الثاني (الأصابع المسروقة)
iv.
استيقظ الكاتب في اليوم التالي وهو يشعر بوهن ينخر عظامه، إذ أمضى ليلته الماضية قـلِـقاً؛ بعد أن رحل المحقق وترك العرض أمامه على طاولة مكتبه. لم يحاول التفكير بالكتابة ولا بمصيره إن هو حاول قتل سارة، كلّ ما فكر به هو النهوض من سريره، والوقوف على قدميه، ليفتح النافذة ويدع الضوء يدخل إلى غرفته، مدّ يديه إلى الشباك ولمّا تحسس الزجاج صرخ بصوت عالٍ، انتبه إلى أن أصابعه قد سُرقت منه، وبات بيدين ملساوين لا أصابع فيها، ذُعِر أيّما ذعر، تخبّط دون جدوى، هجم على الباب محاولاً فتحه لكنه لم يستطع الإمساك بالمفتاح المعلّق على الحائط، حاول استخدام الهاتف والاتصال بشقيقه لكنه انهار بشدّة كلما لمحت عيناه يداً ملساء بجلد مشدود يخفي كلّ أثر ممكن أن يدلّ على أصابعٍ كانت مركّبة عليها. سقطَ من توّه على الأرض وأدرك أنّ اجتياز الفخ الذي نصبه له المحقق هو وحده الكفيل بعودة أصابعه إليه. لكن أين المحقق؟ أين اختفى؟ هربَ الكاتب إلى التفكير علّه يخفف قلقه ورعبه، فعاد الصداع ليحاصرَه ويسلمَه عنوة إلى النوم.
على الرعب نام، وعلى الرعب صحا بعد ساعات قليلة خالها دهراً من فرط تعبه. سمع طرقاً على الباب فنهض مسرعاً يأملُ عودة المحقق من جديد.
· افتحوا لي الباب أرجوكم (صرخ دون تفكير في هوية الطارق)
· نعم نعم سأفتح الباب، جئتُ لأحرّرك أيها الأخرق.
لم يكن الصوت الذي سمعه مألوفا، فخفّ حماسُه، ونهرَ الطارق
· من تكون؟
· ليست هذه الأسئلة مهمة الآن، فأنت في موقف لا تحسد عليه، دعني أدخل بهدوء لنتفق!
ثم أحسّ الكاتبُ بدفعة قوية خلعت الباب لتكشف عن رجل ضخمٍ بملامح أنيقة وسمات ودٍّ طافحة على وجهه
· قلتُ لك من تكون وما الذي تفعله بمنزلي؟
· وأنا قلتُ لك إنّ هذه الأسئلة تافهة ولا تساعدك في إتمام صفقتك مع المحقق
· إذن المحقق هو من أرسلك إلى هنا؟
· نعم وأرسل أصابعك معي، لا تخفي يديك فأنا أعلم القصة، لا أعلم التفاصيل طبعاً، ولا تهمّني، لكني سأكون صلة وصل بينكما حتى تنتهي لعبتكما السخيفة، كن متعاوناً فأنا مللتُ الوساطات، تصوّر أكثر من عشرين عاماً في نفس المهنة أليس شيئاً سخيفاً؟ آه تستطيع مخاطبتي بالسيد الصّلة، لا لا أمزح معك اسمي أمين.
نظر الكاتب بعيني أمين، محاولاً قراءة الخطة التي يريد المحقق تمريرها من خلاله، جلس الرجلان على طاولة واحدة، ثم أخرج أمين رزمة أوراق صغيرة الحجم، وطلب من الكاتب أن يملي عليه باقتضاب نصّاً مختلفاً عن تلك الرواية التي نسي اسمها، إنما كلُّ ما يهمُّه منها ألّا يموت أحدٌ فيها، وبالأخص تلك الفتاة المدعوة «سارة»، حتى لا ينتقم منه المحقّق، وما إن ينتهي الكاتب من إملائه على أمين، سيقرأ المحقق النص ويعيد للكاتب أصابعه، وبهذا يكون المحقق قد حمى الكاتب من نفسه، فلو قتل الكاتبُ سارة سيُقْـتَـلُ لا محالة سواء من المحقق أو من أي نصير لفكرة الشهداء. هذا العرض واقعي ومسؤول ومن النادر حدوثه كما أكّد الصلة أمين للكاتب، “فلا ترفس النعمة واكتب نصّاً تخدم فيه فكرة الحياة كي لا يحقّ عليك القصاص”. أنهى الصلة حديثه وشرع بكتابة رواية الكاتب المعدّلة.
v.
مساءً، تكوّمت سارة على نفسها بعد نهار شاقّ قضته في المختبر الطبي التابع للجامعة، كانت حديثةَ عهد بوظيفتها لكنها تدرك أنّ المتاعب المنتظرة سيكون سببها بعيداً كل البعد عن الإنجازات العلمية وتطويرها، إنما سيرجع سبب التعب إلى التراتبية التي يخضع لها المختبر والجامعة حتى وزارة الصحّة التي هي مجرد مؤسسات وكراسٍ. أرّقتها تلك الأفكار الرتيبة، وعَدَلَتْ عن تكوّمها، طقطقت عظام ظهرها وقررتِ الاتصال بوالدها، لم تره منذ شهرين أي منذ بداية عملها واستقلالها عن العائلة.
كان والدها يولي اهتماماً خاصاً بالآداب، وعلاقتها به تحرّكُ الخيالَ عندها وتمدّها بحيوية بعيداً عن أحاديث النشاف الطبي التي باتت تحاصرها كلّ اليوم. انتظرت منه أن يفاتحها بأي حديث لكنه هذه المرة كان مرتبكاً جداً، ويهمس بصوت خافت كلما حاولت أن تناقشه عن الوضع السياسي في البلاد فأبدى حذراً غير معتاد، ونصحها بعدم الخوض في مثل هكذا نقاشات داخل المؤسسة التي صارت تعمل بها.
أنهت سارة عشاءها مع والديها سريعاً إذ لم تجد عندهما أيّ جديد، وتوجّهت إلى شقتها، في الطريق وصلتها رسالة على هاتفها المحمول من رقم غريب، يطلب منها الانضمام إلى “المكتب الطبي” الذي يولي عناية بالانتصار للشهداء، كما توضّح الرسالة. كانت سارة قد سمعت روايات متضاربة حول فكرة الانتصار للشهداء، لكنها لمست تعتيماً في أروقة الوزارة حول موقف عميد الأطباء، لم تكن قد تأكّدت الأنباء بعدُ عن صحّة استقالته من الوزارة، انتظرت حتى الصباح لعلّ أحد الموظفين معها في المختبر يعرف شيئاً، يساعدها في فهم القضية.
في صباح اليوم التالي رأت سارة عدداً من الأطباء مساقين إلى إحدى سيارات الشرطة التابعة للحملة التي يقودها وزير الصحة ضدّ أنصار المكتب الطبي بقيادة عميد الأطباء المستقيل والمتخفي عن الأنظار. تأكّدت سارة بعد هذا المشهد من صحّة ما وصل إلى جوالها ليلة أمس، وقارنته مع آخرين وصلتهم ذات الرسالة. سمعت أقاويلاً تتردد في أروقة المختبر عن كادر طبي واسع يتهيّأ للالتحاق بعميد الأطباء، ويرفض الحملة المغرضة التي يشنها الوزير ضد زملاء لهم، بحجة وضع حدّ للجرائم التي ترتكبها بعض الجماعات المفصومة بحقّ كُتّاب وأدباء مشهورين، جريمتهم الوحيدة أنهم احترفوا الخيال. هل السلطة تدافع عن الخيال إذن؟ لم تعِ سارة المشهد بعد.
تواترت زيارات سارة إلى والدها، وحاولت أن تبني موقفاً مما يقوله وتحثّه أكثر فأكثر على النطق بشيء واضح حول ظاهرة قتل الكتّاب المنتشرة، وبروز جماعة الانتصار للشهداء وأثرها على الساحة السياسية، واختراقها لمؤسسات الدولة الإعلامية والقضائية …الخ. في آخر زيارة استطاعت الحصول على كراسة قديمة كان قد كتبها والدها في شبابه إبّان رواج الآداب البوليسية التي تكثر فيها جرائم القتل، أفصح والدها لها بأنه كان ممن يبكون كثيراً لمقتل إحدى الشخصيات ويرتاعون من قساوة المشهد وأكثر ما كان يستفزه شخصياً التعليلُ الوقح الذي ساقه أحد الكُتّاب ذات يوم “صناعة الرواية تتطلب ذلك”. كنتُ أبكي حتى لو كانت الرواية واقعية ولا تركز على الموت أو القتل إلا عرضاً. حينها لم أكن أستطيع الإجهار برأيي لأن السائد هو أنّ موت شخصية في عمل أدبي، ليس شيئاً حقيقياً، وهذا ينطبق على الحياة فيها أيضاً، الموت والحياة كلها على الورق تصوّري هذه الفكرة المرعبة التي نشأنا عليها، قلّة قليلة حاولت أن تقاوم، قال لها والدها، ثم أكمل لكنّك اليوم ترين أنّ الوضع قد اختلف وبات الناس أكثر حساسية لإنسانيتهم، ولمصائر الشخصيات الروائية ولا يقبلون التفريط بفكرة الخلود أبداً ولو كلّفهم هذا الأمر أن يقتلوا أولئك الكتاب الوضيعين. هذه الكراسة بين يديك فيها أسماء كلّ الكتاب الذين فكرت بالتخلص منهم في صباي ولكني لم أقدر، أكملوا حياتهم تحت الأضواء وحصدوا الجوائز، على جثث الكثير من الشخصيات.
ارتاعت سارة من كون فكرة الانتصار للشهداء مزروعة من قبلُ في رأس والدها وهي لا تعرف كلّ هذه المدة عنها شيئاً، فتّشتِ الكرّاسة قرأتْ أسماء الكتّاب المتورطين مقرونة بأسماء الضحايا وفي أي عمل أدبي تمّ قتلهم تمعّنت بالقائمة الطويلة التي أعدّها والدها، ومرّت عيناها على أسماء مثل مينا، عزّام، محفوظ، الذي يبدو أنّ عدد ضحاياه هو الأكثر في مقياس والدها الخاص، قبل أن تجد قائمة أخرى معنونة بقائمة الشرف لكل من انتصر للشهداء وكانت ألقاب الفدائي أو القائد هي الأكثر تكراراً قرأت أسماءً كثيرة من بينهم متورطين بعمليات اغتيال لكُتّاب وأدباء إلى أنْ وصلت لاسم (الدكتور زاهي الزايد، عميد الأطباء و(المقدّم منتصر هوّاش رئيس فرع التحقيقات سابقاً الذي انشق عن السلطة وانضمّ للدكتور زاهي ووزير العدل اللذين أسسا كتائب الانتصار للشهداء).
vi.
وضع الصلة أمين القلمَ مندهشاً محتاراً من الحيلة التي أراد الكاتب فيها أن يجبر المحقق على الظهور بكشفه عن اسمه للعلن، وإقحامه لسارة في متن النّص بعد أن كانت هامشية، وتمهيده إلى أنّ المصير الذي يرسمه لها مرتبط بشكل أو بآخر بمصير المحقق منتصر هوّاش.
أشار الكاتب على الصلة أمين كي يكمل كتابته فالإلهام الروائي يوحي له بأحداث خطيرة يجب أن تكتب الآن. تردد الصلة أمين، وتحجج بأن الاتفاق سيتمّ على مراحل. ابتسم الكاتب وعادت له بعض ثقته ثم قال لأمين:
· فكّر بنفسك قليلاً، إن كانت لديك بعض العروض فالكاتب مازال حاضراً أمامك بفكره ولسانه وخياله، انسَ أنّك صلةٌ، فليس كلّ يوم يجعلك القدر تصادف كاتباً مثلي، عليك أن تحيّد مصلحة المحقق وتفكر بذاتك قليلاً، مهنتك جيدة وليست مملة إن عرفت استغلالها. لا تأتِني غداً إلى المنزل قل أيّ شيء للمحقق، سيكون لقاؤنا في الحديقة العامة، فالهواء الطلق يمدّ الجسدَ كما الخيال بالترتيبات والحِيل.
· الفصل الثالث: جسد يتفحّم في حديقة
vii.
عسى ألا أكون قد تأخرت أكثر من هذا، رددت سارة بضمير حيّ هذه العبارة وهي تحزم أمتعتها وتغادر شقتها على عجل بعد أن كُشف أمر انتسابها “للمكتب الطبي” نفّذت عدّة عمليات استهدفت مصالح اقتصادية تموّل الكُتّاب القتلة. نزلت إلى الشارع وغاصت بين الناس وازدحامهم، أرسلت من جوالها رسالة أخيرة إلى والدها الذي تولّى حرق شقتها وكلّ ما فيها من وثائق، ثم انتقل لاحقاً إلى العيش في القسم الآمن من المدينة، والذي أصبح تجمعاً كبيراً يضم كلّ المؤمنين بفكرة الانتصار للشهداء وإنزال القصاص بحقّ الكُتّاب المتورطين بقتل عدد من الشخصيات الروائية. هذا القسم من المدينة كان مغلقاً ولا يدخله إلا من أثبت عملياً انتماءه لمجتمع القَصَاص، عميد الأطباء، وزير العدل، حتى منتصر هوّاش، كل هؤلاء كان لقاؤهم سهلاً بمجرّد الدخول إلى الأراضي التي يسيطرون عليها. قطعُ الطريق بين قسمي المدينة هذا هو امتحان سارة الأخير الذي كان محتّماً عليها أن تجتازه بأي طريقة، بعد أن صارت مُلاحقة من قبل السلطة الحاكمة والتي ما زالت تخضع لهيمنة كُتّاب التحالف الإجرامي بين أنصار الواقعية والبوليسية الخيالية، تحالفٌ يسمحون فيه بالترويج لفكرة جواز قتل الكاتب لشخصياته في عمله الأدبي، ويعبُرون من خلال هذا القتل إلى ترسيخ الدموية والعبودية في المجتمع.
· آه سارة وأخيراً وصلتِ، لا تدركين حجم الكارثة، وكارثتي أنا شخصياً في ما لو مسّك أيُّ أذى؟
بهذه الكلمات غمر منتصر سارة كما لم يغمرها من ذي قبل بعد استعصائها لشهور في ذلك المَخْبر الحقير.
· أوووف، لم يبقَ الكثير منتصر إنهم ينهارون صدقني، وحيلتك الذكية التي استخدمتها مع ذلك الكاتب الأخرق عندما سرقتَ منه أصابعه حمتني كلّ تلك الفترة من خياله المريض الذي قتلني في المرّة الأولى.
· لن ينجو بفعلته لو أنّك رأيتِه وهو سابح بدمائه بعد أن مزّقتُ أحشاءه، في الأمس أخبرني أمين بأنه حاول إغراءه واستمالته إلى طرفه بطريقة حقيرة.
· احذر من أمين على أي حال!
· لا، أمين معنا، كوني متأكدة.
· لا لن أكون متأكدة، احذر وكفى!
· طيب، طيب.
viii.
انتظر أمين طويلاً في الحديقة، قبل أن يأتي الكاتبُ متأخراً جداً عن موعده، حاول أن يضعَ يديه في جيبه مسافة الطريق محاولاً أن يخفي منظر اليدين الملساوين اللتين سقطت عنهما الأصابع.
· تأخرتَ كثيراً، كان عليك الإسراع، إن لم تعد بحاجة لأصابعك، فعلى الأقل يجب أن تعرف بأن سارة قد عبرت إلى الضفة الثانية، ليس بإمكانك فعلُ شيء عليه القيمة بعد الآن.
· آه… في الحقيقة أعلم، بالأمس أخبروني أنها قد عبرت إليه، تركتْ كلّ هذه الإبداع البوليسي الواقعي وذهبت إلى أولئك الحالمين، آه إنّه شيء جنوني، أنا نفسي لا أصدق إيمانهم الفجّ هذا، وأنّي ذات يوم قد جعلتُ لصّاً كمنتصر يقتلني ويعبر على جثتي نحو يوتوبياه. هذا كلامٌ قديم فليذهب منتصر إلى الجحيم المشكلة الآن في سارة، أعتقد أنّك لاحظت القواسم المشتركة بيننا، بالرغم من أنّنا لم نلتقِ مرّة. لكنّي تحمّستُ لها عندما بدأت أصابعك، أقصد أصابعي، تكتب سيرتها المعدّلة، وندمتُ لأني قتلتها أولاً وتشبّثت بمنتصر خدمةً للسياق السردي لروايتي، حقّاً إننا نقدّر الأشخاص الخطأ، ياللتفاهة.
· عليك أن تشكر المحقق إذن، فهو الذي أصرّ على حياة سارة؟
· خسئ هذا اللص التافه، مثلي لا يشكر أمثاله
· لكنّه شجاع سيأتي ليلتقيك هنا في مدينتك الآمنة
· أراك أفشيتَ له حديثنا، توقعتُ هذا منك
· لا أبداً لم أفش له بشيء، إنما قصدت أنّك إذا أردت لقاءه هنا سأقوم بإخباره وهو لن يمانع كما لمّح لي، بل إني استلمتُ أصابعك منه هنا في هذه الحديقة، أحقاً لم تكن تعلم بهذا؟ ظننتُك قد اخترت الحديقة لتعقد صفقتك معي ردّاً على الصفقة التي عقدها منتصر معي في ذات المكان!
شرد الكاتب وأحسّ بغصّة طويلة وكاد ينفجر بكاءً، ثم صار يحصي خساراته منذ أن بدأ هذه اللعبة الحقيرة مع الشيطان منتصر، فبعد فشل هذا التافه في الانتصار لفكرة شهداء الأعمال الأدبية، وهي فكرة الكاتب أساساً، جبُنَ عن تحشيد الناس خلفه ولم يقوَ إلا على إقناع بعض الهزيلين الذين توهَّم بطولتهم، وولّاهم أمره كعميد الأطباء ووزير العدل، ثم ها هو يمنعني من قتل سارة الشخصية الأكثر ثانوية، وهو البطل الذي اخترته للانتصار لفكرتي، بعد كل هذا يسرق مني أصابعي ويجبرني على تعديل النّص بابتزاز فاضح، ثم يرسل لي هذا السمسار ليتحدّاني وينتقص من شجاعتي وأنا أول شهداء الرواية، حقاً لم يعد هناك شيءٌ أخسره.
· بماذا تفكّر سيدي الكاتب؟ أنت قلتَ لي إنّ عرضاً ينتظرني وإلى الآن لم نتحدّث شيئاً عنه، والتفتنا إلى سارة ومنتصر وتقييمك لهما، وهما أعداؤك، هذا أعرفه سلفاً، أنا أنتظر العرض خاصتي؟
· آه معك حق يا أمين، أنت على صواب، العرض سيكون بسيطاً
· هيّا، بسرعة، إنّي أسمعك، تفضل
· باختصار إن كان المحقق قد سرق أصابعي، فأنا أساساً لم أعد بحاجتها، ستحتفظ بأصابعي يا أمين
· ولكن أنا لا أقوى على فعل شيء بأصابعك، ومهارتي في تعديل الفصل الخاص بسارة جاءت من خلال الاستماع إليك أنت صاحب الخيال، هذا ليس عرضاً هذا توريط وأنا في غنى عنه
· لا تستعجل الأمور أنا لم أقل إنّ العرض سينتهي هنا، دعني أكمل، سأستغني عن خيالي هذه المرّة وإذا كان رأس السمسار الذي تحمله لا يقوى على حمل هذا الخيال واكتفى بأصابعي فقط فلا تقلق سأجد حلاً، المهم الآن هو التخلّص من زمرة الأوغاد الذين تمرّدوا على نصوصي وحطوا حداً لمجدي الكتابي الذي كان ينتظرني، أنا أعيش من أجل الكتابة وبما أنّ أوغاداً مثلهم قد دمروا حلمي فلابد أنّ الحياة أصبحت سخيفة مقارنة بما هم عليه.
ix.
“هذه القصة بُنيت على أحداث حقيقية، وكلّ عملية قتلٍ عمدٍ فيها لها نسخة أصلية حدثت في الواقع”، سيتحتّم عليكم توقيع هذه العبارة في صفحات الرواية الأولى حتى أتنازلَ لكم عن جسدي وخيالي، بهذه الكلمات أنهى الكاتب اتفاقه بسرعة مع فرقة من الصّلات المأجورين، الذين أمّنهم له أمين على عَجَل، لم يعقّب أحدٌ منهم على شرط الكاتب، وافقوا بهزّ الرؤوس فقط، وبلا كلام حتى. سيصدر العمل إذن بتوقيع جماعي “مجموعة من الصِّلات”، وهو يحمل ُعنوان (الكاتب والقصاص) ولن يشار فيه إلى الكاتب، اسمه، أصابعه، خياله، أو أيّ شيء منه، لأنّ هذه الأشياء سيتقاسمونها الصّلات، وسيختصّ كلٌّ منهم بشيء. هذه المرّة لم يحسّ الكاتب بأسياخ محمّاة تمزّق أحشاءه لأنّ جسده تفحّم فوراً ما إنِ انتُزعَ منه خيالُه وأُلبِسَ لأحدِ الصّلات، الذين فقدوا موقعهم البينيّ، وسيتولّون منذ اللحظة الوفاء للشرط الذي أملاه عليهم الكاتب الشهيد، وهل يكون الوفاء إلّا بإنزال القصاص بأعدائه.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.