ترجمة لمقال فادي عزام
في نيويورك تايمز
نشر بتاريخ 18 إيلول/ سبتمبر
نشر بتاريخ 18 إيلول/ سبتمبر
–
عمر بن الخطاب كان آخر حاكم ديمقراطيٍ عادلٍ عرفه العرب قبل 1400 عام، ولقب بالفاروق أي السيف الصارم المنصف. وهو صاحب العبارة الأجمل في التاريخ العربي:
“متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
في الحقيقة عمر مات مقتولا بخنجر غلام من خدمه، وطائفة كاملة من المسلمين يلعنونه خمس مرات في اليوم لأسباب تتعلق بفهم الديمقراطية على ما يبدو!
وفي مكان قريب من مدينة “الرقة” السورية الحالية، على نهر الفرات، تعارك حزبان كبيران أحدهما يلعن عمر، والثاني يقدّره. في معركة صفيّن.
تحول بسببها لون نهر الفرات إلى الأحمر. أسفرت عن أربعين ألف قتيل من الشيعة والسنة، ومعركة انتخابية لم تحسم حتى اليوم، بمن أحق بالخلافة علي بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان؟
لكن “مكة” بقيت جامعةً لكل ألوان البشر، ولعلها أول مكان في العالم يتساوى فيها الناس، يطوفون معاً ويلبسون ملابس العمرة البيضاء ويرددون نفس الأدعية ويؤدون ذات المناسك، وليس مهما ما هو لونك فتحت الجلد كل الألوان تصبح حمراء.
أما دمشق فكانت دائما مكانا مدهشا لفهم حركة التاريخ. فهولاكو الذي دمر بغداد صار مسلما في دمشق. إنها مدينة تغير المحتل وتبقى راسخة على هيئة لغز.
عرفت دمشق البرلمان وصندوق الانتخاب ونشاطاً محموماً للأحزاب واحتجاجات وحرية صحافة وشهدت مظاهرات ضد الحكومة بين عامي 1925 حتى عام 1963 .
حين جاء حزب البعث صادر منها الديمقراطية، وانتزع حافظ الأسد منها الحرية، وتكفل ابنه بشار بتحويلها إلى مدينة من كوكب الخراب.
ثم قامت الثورة، وسجلت الفيدوهات الموثقة أحد أكثر اللقطات تعبيراً، في الأشهر الأولى من الثورة، قبل ظهور القاعدة ومشتقاتها في المشهد المحموم.
جنود تابعون لقوات الأسد يدوسون مجموعة من الشباب المتظاهرين السلميين. يقفزون فوق أجسادهم المكبلة المبطوحة على الأرض وهم ينطون فوقهم ويركلونهم ويصرخون:
تريدون حرية ياحيوانات؟ أفهموني ما هي الحرية؟
كان ذلك هو السؤال. وجاء الرد حاسما من نظام الأسد.
في منطقة سيطرة تنظيم القاعدة سجلت الكاميرا كيف يكبل شباب الثورة السورية ويداس علم ثورتهم من قبل غرباء من تونس والسعودية والشيشان وفرنسا. ثم يرفعون لافتة، على طرقات المدن التي تقع تحت سيطرتهم، تقول:
” الديمقراطية كفر”
سارعت وسائل الأعلام لنقل ما يحدث، وأيضا لحجب الكثير مما يحدث وعلى الرغم من ذلك امتلأت الشاشات بالمأساة السورية.
كانت الرسالة واضحة: هل رأيتم مآل من يطالب بالحرية والديمقراطية؟
رسالة للشعوب العربية دفع ثمنها السوريون. رسالة تؤكد أن على هذا الربيع العربي اللعين أن يتوقف في دمشق.
التدخل الأمريكي الغربي كان لفظيا ضد وحشية النظام، وعملياً ضد بعض جيوب الإرهاب وهذا كل شيء.
ظهر الإرهاب كوصفة ناجعة لمعالجة كل الأمراض. إنها شعوذة ما بعد الحداثة، مئات الجهادين من أوروبا فتحت لهم الطرق والمطارات ليذهبوا إلى سوريا علّهم لا يعودون. وأصبح رجال الذقون الطويلة والشعر الطويل يقودون دبابات ويحولون كل ما تعلموه من البلي ستيشن إلى واقع عملي يمتزج فيه الخيال بالواقع لدرجة يصعب الفصل بينهم.
لكن العالم الحر تنهد مرتاحاً بعد سنة ونصف من النشاط السلمي. كانت حصيلته آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين من أجل الديمقراطية والحرية. فيخرج الرئيس أوباما ليقول: “لا نسطيع أن ندعم مزارعين وأطباء أسنان فهؤلاء لن ينتصروا!”
ترى ممّ يشكوا طبيب الأسنان السوري سوى أنه قال للعالم: إن رائحة فمك كريهة؟
نعرف كيف ساندت الولايات المتحدة أعتى الأنظمة الهمجية في المنطقة والعالم، في أفغانستان والصومال والعراق. وأطاحت بحكومات ديمقراطية في أمريكا اللاتينية. ونعرف أننا لا نمتلك لا البترول ولا الأهمية القصوى للمصالح الأمريكية التي تستدعي أن تدخل الحرب وترفع شعارات الديمقراطية من أجلنا. نعرف ما حدث في سجن أبي غريب، نعرف ما يحدث للبشر الذين يقتلون بالأضرار الجانبية للطائرات بدون طيار.
هذه القوة العاتية لا تجلب لأي بلد أي شيء ذو قيمة، ببساطة لأنها قوة غير أخلاقية ولا تعنى لا بالحرية ولا بالديمقراطية حين يتعلق الأمر بفقراء العالم.
إنها الذراع الضاربة للثراء الوحشي الوجه الأخر لما بعد العولمة.
لم يكن مطلوبا سوى الحدّ من المجزرة، مناطق أمنة، حماية المدنين، محاكمة مجرمي الحرب. طالبنا النخبة، وقوى المجتمع المدني، وجمعيات حماية الحيوان، ومنظمات حماية الآثار. بلا جدوى. كان الموت السوري فضيحة أخلاقية لكل العالم.
قُتل أشجع رجال ونساء هذا العصر وهم يرقصون ويغنون للحرية، لا يوجد موتٌ أنبل من هذا. مات الآلاف في السجون والمعتقلات وفي الشوارع من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. يمكنكم أن تشاهدوا وجوههم كيف معظمهم قتلوا تحت التعذيب وهم مبتسمون راجعوا في تسريبات المصور قيصر.
خذلنا العالم الديمقراطي، لا أقصد سياسييه وسفرائه ووزارات خارجيته وجنرالاته فهؤلاء دائما يحملون صفة الأوغاد في كل مكان. بل خذلتنا نخبه الثقافية ومجتمعه المدني.
نحن نعيد قراءة إدوارد سعيد اليوم بجدية، فقد كتب منذ عقود عما يحصل وكان يعرف تماما أن البؤس الذي سبب لنا كل هذا الألم، قد سلّم سابقا أفغستان لزمرة من الفاشلين الفاسدين والعراق لعبث الحلم الفارسي.
إذاً إنها الديمقراطية وهذا ثمنها، أن لا تكلف الغرب شيئاً وأن تضمن مصالحه. أن تكون مفصلةً على مقاس اتفاقاته التجارية. ومزاج مستشاري صانعي القرار.
“وظائف وظائف وظائف”.
الحدث العظيم كان في نيويورك والانتقام البخس من فقراء أفغانسان وبعدها استخدمت الديمقراطية مثل محارم تواليت في البلد المنكوب حتى اليوم.
كانت أسلحة دمار الشامل وتدمير العراق، بهندسة بريمير الفراغية التي سلمت بلداً عربياً كبيراً للإدارة الإيرانية وبعدها صنعت ديمقراطية في المنطقة الخضراء التي لا تتجاوز بضعة كيلومترات وترك لون الدم يصبغ العراق لمئة سنة قادمة.
خطوط أوباما الحمراء سخر منها مجرم البراميل المتفجرة، مما جعل الديمقراطية السورية تزيد من شيب الرئيس صاحب الخطاب الملهم وجائزة نوبل التي لن يستطيع التحدث عنها بعد اليوم وإلا سيرى فيها صورة طفلٍ سوريٍ مختنق بغاز السارين.
هل يمكن أن تحقّقَ الديمقراطية بالقوة العسكرية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة للغاية: نعم ولكن في حالة واحدة:
إن كان فعلًا سبب الحرب الحقيقي هو الديمقراطية وهي الهدف. أما إن كانت مجرد واجهة لشعارت وطلاء للكذب، فكل ما سنحصل عليه هو المزيد من الدمار والتطرّف.
شباب الحراك الثوري الذين نجوا من المسالخ البشرية؛ و”مسالخ” كلمة أطلقتها منظمة شديدة الحرص في انتقاء مفردتها مثل الأمنيستي، اغتصبوا، أذلوا وأهينوا. من نجا منهم قد يكون خسر كل شيء ولكن حين يسألون كيف تتمنون أن يكون الانتقام؟ يجيبون جميعا: محاكمة عادلة لكل القتلة؟
فإيمانهم بالحرية والديمقراطية أنقذهم من الحقد.
لا يوجد شعب واحد في العالم تعلم الديمقراطية قبل ممارستها، نحن السوريون منذ سنوات نمارسها كل يوم بالدم والحبر معاً. جرّبوا أن تشاهدوا فيلم غاندي الصغير للمخرج الأمريكي سام قاضي. جربوا أن تمروا ولو مرور الكرام على فيلم المختفون قسراً في سوريا للمخرجة البريطانية سارة آفشر وستجدون إجابات.
أحرار العالم وقواه الحيّة مكبلة ومبطوحة على الأرض، يقفز فوق ظهورها قادة العصر الجديد ترامب وبوتين وأردوغان وآية الله الخميني و بي بي نتنياهو بينما السيد المجرم بشار الأسد يصفق لهم وهم يركلون وينطون على ظهورنا جميعا ويصرخون.
تريدون حرية؟ أفهموني ما هي الحرية؟
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.