لفترة غير قصيرة أحاول الكتابة، لكني كلما أمسكت بالقلم يبدأ النكد. ينسكب على البياض أمامي ما يصلح كلامًا لأغنية من أغاني هاني شاكر أو حمادة هلال مثلاً. على شاكلة (ديما دموع).
تعبت كثيرًا من الشكوى الغنائية التي تغلي في قدر صدري الصدئ. فقررت اليوم أن أضع حدًا لهذا الابتذال. صفقت مرتين وأعددت فنجان قهوة موحلة وقررت كتابة نص سعيد الى حد ما، تغرد فيه العصافير وتشرق الشمس ويذهب الأطفال كلهم للّعب في باحات بيوت واسعة وآمنة تطل على بحر لا يقتل أحدًا. يعني، نص أفتح فيه الشباك فلا تصلني رائحة المزبلة تحته بل يهب على وجهي نسيم خفيف نظيف كأمل جديد بغدٍ أفضل يشبهنا بعد تعديل المورثات اللازم وبعد شطب حقائق كثيرة وواقع ثقيل، قلت لنفسي “الى الخراء”. أشطب، لماذا لا أشطب؟ وأذهب للركض أيضًا أو أخرج الأجنحة المكسرة من الخزانة وأرتقها وأقفز بها من قمة جبل. جلست في المطبخ أبحث في ذكرياتي عن لحظة سعيدة أستمد منها العزيمة في مشروعي الصغير. نبشت ذاكرتي عاليها واطيها لكن الذاكرة كلبة انتقائية تدافع عن الموجود فقط بدون ولاءات، لا لحياة ممكنة ولا هم يحزنون. 9 ساعات وأنا امسك القلم.
أقعيت للتبول على بلاط الحمام فساقاي الطويلتان لا تسمحان لي بالجلوس في المرحاض الضيق جدًا. اللزوجة التي تغذيها الرطوبة جعلت الأرض زلقة ومائلة لخضرة مزرقة، تبرق كالألماس تحت شعاع الشمس الذي تسرب من الطاقة الصغيرة القريبة من السقف. شعاع واحد جعل المكان يشبه غرفة في الجنة ذكرت باقتضاب في كتاب مستعمل (يتفنن في الرعب) عن عذاب القبر اشتريته من بسطة قرب ساحة سعد الله الجابري في إحدى جولاتي بحثًا عن الشيطان. أسندت مرفقيَّ على ركبتي ورأسي على كفي كراهب صغير. تركت عضلة مثانتي ترتخي لينفلت السائل الدافئ ويندفق على البلاط لأشعر بطرطشة على قدميَّ وأنا أراقب الفقاقيع في البرميل الكبيرالذي تستخدمه أمي لغلي الملابس الداخلية والمناشف البيضاء. محاطة بالبخار المعطر برائحة صابون الغار التي تحولني الى حيوانة بدائية فأرغب لو أن رئتيَّ أكبر لاّخذ نفسًا واحدًا الى النهاية لكن رائحة الغاز التي تتسرب من البوتاغاز الأرضي تجعلني أوشك على الاختناق. يمتلئ صدري بالبخار ورأسي بالغيوم وأنا مقعية في ذلك الجحر، مغلفة بخلطة الروائح التي تفتح مسام جلدي فينبت لي في كل مسامة مجس صغير يستقبل الخارج ويلتهمه دفعة واحدة ويفتح حواسي الخمس، الست، الألف أو يغلقها. زممت عيني مستسلمة للمتعة التي جعلتهما تدمعان قليلاً. كنت للتو قد ربحت معركة حامية وفزت بحصيلة (الكلال) متغلبة على 9 من أمهر أولاد الحارة في تلك اللعبة، ثم طٌردت بلؤم أسعدني من قبل بعضهم، طردةً تتضمن الضرب ومحاولة نشل فاشلة. هربت بعدها إلى المنزل. كنت متأكدة أني فرخ بط قبيح وسعيدة تمامًا بتلك الخلاصة التي حلت علي كالإلهام.
أصاب ساقي خدر خفيف بسبب الوضعية التي جلست بها. وعندما حاولت الوقوف، أفلتت الكرات الزجاجية الملونة الكثيرة المكومة في جورب صغيرة مرتق ومخصص لحفظ الغنائم، أحمله معي الى كل مكان كما يحمل الكنغر صغاره في بطنه، فتدحرجت غنيمتي في البول. لملمت الكرات الثمينة بسرعة وركضت الى الغرفة التي تطل على أرض الحوش لأنقذ حصتي من قالب الكاتو الذي أعدته أمي بمناسبة عيد ميلادي التاسع قبل أن يقضي عليه جيش الأطفال.
أفقت من غفوتي. وجهي ملتصق بالورقة الفارغة ومثانتي تكاد تنفجر، هذه المرة، المرحاض من البورسالان الأبيض نظيف كغرفة عمليات. لكني فرخ بط قبيح تمامًا كما كنت في التاسعة. أدركت أن هناك خطأ ما في الحكاية. فراخ البط القبيحة لا تكبر…
ها أنا أرمي بالنهايات السعيدة كلها في مزبلة وأتبول على هذا العالم اللزج، الذي يبدو أحيانًا كجنة صغيرة مذكورة في كتاب رهيب عن عذاب القبر. لكن قطعة كاتو واحدة قد تكفي لتعديل الموقف
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.