الصفحة الرئيسية / تجريب / أوتوستوب – كنتُ هناكَ، كنتُ هناكْ

أوتوستوب – كنتُ هناكَ، كنتُ هناكْ

 جمال منصور

 

كعادتها،
محطَّةُ “الكرنكِ”
تزخرُ
بجثثِ الباصاتِ المهترئةِ، الـ صُنعَتْ في ألمانيا الشرقيَّةِ / أبخرةِ المازوتِ / جثثِ السجائرِ الرخيصةِ / رائحةِ الفلافلِ المقليَّةِ، للمرةِ الألفِ / الباعةِ المتجوِّلينَ، وبضاعتهِمْ الـ  لا تعني إنساناً / الشحَّاذينَ الكذَّابينَ، على الدوامِ / شراميطِ النهارِ، وجواربهنَّ المثقوبةِ، وعطرِ منيِّ الزبونِ الأخيرِ / وبولِ العسكرِ
– على كلِّ شيءٍ
على الجدرانِ
على وجوهِ موظَّفي التذاكرِ اللؤماءِ
على الحقائبِ
على بطاقاتِ الهويَّةِ، ورسمِ النسرِ السوريِّ الكسيحِ
على وجهي
على وجهكِ
على وجهِ الوطَنْ…
[دمشقْ، 1987 – محطَّةُ “الكرنكْ”]

 

عجيبةٌ
باصاتُ “الكرنَكِ”
كيفَ  تستطيعُ أنْ  تحتضنَ كلَّ هذي
البصقاتِ المتجمَّدةِ / روائحَ العرقِ النتنةِ العتيقةِ / خربشةَ المراهقينَ على ظهورِ المقاعدِ / النوابضَ، الـ كخوازيقَ صغيرةٍ / آلاف دماملِ سجائرِ “الشرقِ”
وإيانا،
ورجالَ الأمنِ الـ يجلسونَ في المقاعدِ الـ في الأمامِ
ويتسامرونَ مع المضيفِ النحيلِ، معرورقِ-اليدَيْنِ
ويشربونَ شاياً من كؤوسِ البلاستيكِ
الـ عمرها من عمرِ الحركةِ التصحيحيَّةِ
والـ باتَ يشبهُ أسفلها
أقفيةَ اولادِ الشوارعْ…
[بولمانٌ، بولمانْ]

 

حلاوةُ الجبنِ بنكهةِ المازوتِ
وللشاي طعمُ ماءِ المستنقعاتِ
في المطعمِ الصغيرِ
الـ في وسطِ الشارعِ الخلفيِّ
في حمصَ العتيقةِ
الغارقةِ، وإيانا،
في ظلِّ غيمةِ النشادرِ الآتيةِ من المصفاةِ
والـ تغمرُ المآذنَ
وتكسيَّاتِ المرسيدسِ 190 الآتيةِ من زمانٍ آخرَ
وابتساماتِ الناسِ السقيمةِ الناحلةِ
بشيءٍ من الذبولِ
والموتِ العقيمْ…
[حمصْ – حلاوةُ الجبنِ، مرارةُ الجبْنْ]

 

لا شيءَ في حماهْ،
سوى معملٍ بائسٍ يبصقُ
آلافَ الدواليبِ السيئةِ الـ لا تصلحُ
إلاَّ لتعذيبِ المساجينِ
والشاحناتِ الروسيَّةِ،
وفرنٌ لصهرِ الحديدِ القديمِ،
وفرعٌ للأمنِ العسكريِّ يحجبُ بناؤهُ الدميمُ
الشمسَ
واللهَ
والمواويلَ،
ونواعيرُ
تعلكُ ماءَ النهرِ الشيخِ
الـ لا يقيمُ وزناً للجغرافيا
كما تعلكُ الأرواحَ
والأحزانَ الـ بلا ضفافٍ
وذاكرةَ الدمِ الصدئِ
القديمْ…
[نواعيرْ]

 

لا شيءَ يتحرَّكُ في الحاراتِ
لا شيءّ، حتى النملُ،
الساعةَ السادسةَ مساء الخميسِ
في طرطوسَ
– لا شيءَ
إلاَّ عناصرُ المخابراتِ الـ يملأونَ الأثيرَ بدخانِ السجائرِ
وشتائمَ للا أحدَ
وقرقرةِ المتَّةِ
ورائحةِ الخوفِ،
وبقيَّةٌ من صدى أمواجٍ
يرميها بحرٌ أبيضٌ متوسِّطٌ
لا يأتي هذي الشطوطَ
إلاَّ على مضَضْ…
[طرطوسْ – بحرُ “تشرينْ”]

 

كنتُ وجهاً من بحرِ تلكَ الوجوهِ
الـ بصقَ فيها “حافظُ الأسدِ” في الملعبِ الكبيرِ
خطابَ افتتاحِ دورةِ المتوسَّطِ عامَ 1987
والغريبُ،
أنَّهُ لمْ يستفزَّني الخطابُ بتاتاً،
فقد انشغلْتُ
بكرهِ أغنيةِ “نعيم حمدي” القميئةِ
الـ غنَّاها كالغربانِ
والـ لا تزالُ عالقةً في أذني
إلى اليومْ…
[اللاذقيَّة—WELCOME TO SYRIA]

 

في هذا الفندقُ الـ من ما قبلَ التاريخِ
في ذاتِ الغرفةِ الـ نامَ فيها “لورنسُ العربِ”
– كما أكَّد لي موظَّفُ الاستقبالِ السَئِمُ –
صراصيرُ بحجم الفئرانِ
وصنابيرُ حمَّامٍ
توقَّفَ الماءُ فيها من زمانِ “لورنسَ”
ولوحةٌ على الجدارِ
عن رحلاتِ طيرانٍ بين حلبَ والقدسِ
ولا نومَ
مع أشباحِ المكانْ…
[حلبْ – فندقُ البارونْ]

 

هذي الظهيرةِ
الأسفلْتُ حارٌ كالجمرِ، كأنفاسِ الإلهِ / وقحٌ كالشراميطِ / مثقوبٌ كالذاكرةِ / عاهرٌ كالدولةِ / صارخٌ، في تناقضاتهِ، مع أشباهِ الأرصفةِ
يلفحني في وجهي
يعذِّب روحي
يكادُ يقتلني
إذْ أقفُ في وسطِ الشارعِ العامِّ
أتفرَّجُ على واجهاتِ المحالِّ المغلقةِ
أمامَ فرعِ الحزبِ
الـ يخرجُ منهُ رجالٌ صغارٌ برائحةٍ كالقيءِ
الـ يمتلئُ بهِ ذا الحزبُ،
والـ حشوْا بهِ رؤوسنا
مذْ خُلقنا…
[ديرُ الزورِ – ظهيرَهْ]

 

هلْ لاحظتِ؛
منذُ افتتحوا جسرُ الرئيسِ
قدَم النهرُ العنيدُ
استقالتهُ،
وقصَّت أشجارُ البيلسانِ شعرها،
وسافرَتْ كلُّ العصافيرِ إلى الخليجْ؟؟…
[دمشقْ، 1987 – جسرُ الرئيسْ]

 

بالقربِ من مقبرةِ “بئرِ التوتةِ”
بيوتٌ مرشوشةٌ، كخراءِ العصافيرِ الـ تريدُ تهاجِرْ،
ولا تهاجِرْ
وتتصاعدُ منها في كلِّ لحظةٍ
أصواتُ أرواحٍ
مشتاقةٍ
تائقةٍ
إلى حياةٍ أشبه بالموتْ…
[بئرُ التوتَهْ]

 

في كلِّ الساحاتِ
تماثيلٌ
لا يشبهُ أيُّها الآخَرَ
ولا يُشبهُ أيُّها “حافظَ الأسدِ”
إلاَّ
في بشاعتها…
[تماثيلْ – عدَّةُ وجوهٍ، لبشاعةٍ واحدَهْ]

 

عن جمال منصور

جمال منصور
شاعر سوري مقيم بكندا. مختص بالعلوم السياسية في جامعة كونكورديا