خالد عبد الواحد |
عيّرت الليرة الخاتم إنه مثقوب .. قال: له على الأقل إصبع واحد’. جملة قالها شاعر يدعى إياد شاهين. وجعلنا نتساءل ماذا يمكن العمل بإصبع واحدة؟
تضغط بها على زناد مسدس سريع الطلقات، ترفعها في وجه عدو، تستأذن بها الأستاذ في قاع الدرس لتجيب عن سؤال حرون مثل الخروج لقضاء حاجة ملحة.
تقبض اخوته وترفعه كإبهام إلى أعلى دليل موافقة تقرنها بغمزة عين وإذا أنزلته إلى أسفل وكانت لك يد إمبراطور سيقوم المصارع المنتصر بذبح غريمه أمام الجمهور المتعطش للدم، إصبع الوسطى يمكن أن تشهرها في وجه وضيع يستحقها، وتحضى نتيجة هذه الحركة الرعناء القليلة الحياء بسكين في خاصرتك، إصبع تتأملها بهدوء وتفكر، سوف تُعفى من الخدمة الإلزامية إذا فقدتها، تبصم بها على ورقة بيضاء، تلحسها دليلا عن تذوق طعم صفقة ما، أو مادة لزجة تنتجها مخلوقات وصولية تدعى النحل.
إصبع السبابة يمكن أن تنتصب واقفا في وجه أحد ما لإخراسه أو لإسكاته أو لطلب منه التوقف عن أطلاق الرذاذ من فمه المزبد في زمن الأنفلونزا، ويمكن أن ترفع معها الوسطى لتشكلا أشارة انتصار على عدو ما، بعد أن عمم استخدامه (مثل كود) لتعريف المقاومين الفرنسيين على بعضهم زمن حكم فيشي. وأصبحت علامة فارقة في تاريخ المناضلين الأشاوس قبل أن يسرقها منهم كل من هب ودب في قاعات الأمم المتحدة. وشوارع التشبيح
إصبع تسمى أسما غريبا، لا اعرف من أين جاء (البنصر). اختارته المؤسسة الأكثر فشلا بالتاريخ ( مؤسسة الزواج)ليكون ممثلها حين تحبسه داخل خاتم معدني لامع يدل على أن لك شريك ينتظرك، ليصفي حساباته معك إذا تجرأت على اللعب بباقي الأصابع. تضع خاتما في إصبع وتخسر 9 أصابع في لحظة طيش واحدة.
كل هذه الاحتمالات وأكثر برقت في ذهني وأنا أشاهد معرض خالد عبد الواحد في غاليري ‘ سوا’ بدبي تحت عنوان مريب غريب (أصابع وأشياء).
سألت الفنان هذا السؤال الساذج الذي يقوم به من يتعاطى مع اللغة ويضطهد بها من يفكر ويعمل بالصورة، لماذا الأصابع
?لماذا عطف الأشياء على الأصابع.
أجاب التشكيلي السوري خالد عبد الواحد: لأن الإصبع لوحده يغدو شيئا، مثلما يغدو المتوحد والوحيد شيئا، الإصبع يبدو اجتماعيا، وهو من أكثر الأعضاء جماعية ولكنه في الواقع هو فردي للغاية، وحيد للغاية وخاص وحرون، وله رغباته الفردية أيضا، في لحظات الوحدة للإنسان تصبح علاقته مع الأشياء علاقة غريبة يشبهها وتشبهه، وتقوم الأصابع بتحريك مواضع الأشياء وتغير قدرها أيضا.
من المعرضين السابقين واحد أسماه (تنزيلات) والثاني جماعي في دمشق وفرنكفورت يأتي معرضه الثالث، بصورة مختلفة، عشر لوحات لعشر أصابع متكررة مزدوجة أو ملمومة معا، يزيح ضوءا إلى أعلى أو يقف يتزين بربطة هداية حزينة، وفي نهاية الصالة تنتصب لوحة لكرسي عليها بنطال وقميص ملقاة بهدوء، سلسلة مفاتيح مربوطة بدمية دب، مبولة من مسقط علوي مع حذاء بجسد خارج من الكادر، لنصل إلى لوحة فيها (لأبريز كهرباء) يمتد إصبع ليطفئ النور أو يضيئه، ويختم المعرض بلوحة أخيرة زيتية بورتريه للفنان نفسه يبدو وكأنه بريء لم يقم بشيء بل يشاهد هذا الكم من العلاقات بين الأصابع والأشياء، يقول الفنان عبد الواحد بعد عشرات اللوحات التي أشتغلت فيها على الأشياء البسيطة من حولي، كوب شاي، علاقة مفاتيح و تسمى مجازا بطبيعة صامتة في بعض الأحيان، رسمت هذه اللوحة ويشير إلى لوحة فيها إصبع تحاول أن يلمس مفتاح الكهرباء وبعدها اكتشفت عالما كاملا يكمن في الإصبع.
عوالم الإصبع
الإصبع لوحدها إذا وضعته في فراغ أبيض، يشلْ الفراغ يبلبله، ويتابع خالد عبد الواحد، الإصبع تقنيا شكلها بسيط للغاية، ولكن فيها طاقة مذهلة للتعبير، فهي لا تتشابه مع آخرين، تحمل بصمة خاصة غير متكررة مع مليارات الأصابع، يمكن أن يحمل تفسيرات داخلية كبيرة ويمكن أن تحمل قدرات سيميائية مذهلة، بالنسبة لي كتكوين الإصبع شديد الغموض والحساسية مع الفراغ.
نعيد النظر في اللوحات المتشابهة لأول وهلة نجد أنها تحمل اختلافات فبقليل من التأمل نجد الخلفيات الموضوعة بها الأصابع تصنع عوالم متناقضة قاسية عفوية فلوحة تمثل إصبعين متجاورتين بهما خاتما زواج على خلفية معتقة لألاف السنوات توحي بقدم عمر المؤسسة الزوجية التي تربطها الأصابع.
وأصابع لامرأة لا يوحي بأنوثتها سوى الطلاء المجازي الفاقع على ظفر ضخم لا يصلح ليد سيدة بل لرجل يعمل في المقالع الحجرية. نسأل الفنان: أليس هناك أفراط في الذكورة بموضوعك وبطريقة تناوله.
يجيب: نعم ربما هذا صحيح، فالأصابع مرسومة بخط قوي جدا وتفاصيلها حادة وموضوعها يوحي بالذكورة، ولكن بالنسبة لي أفضل أن أقول أنها محاولة مني لقول شيء ما بأقل قدر ممكن من المفردات، تلخيص وتكثيف حالة شعورية وإحساس داخلي على سطوح مستقيمة بيضاء، اللوحة لأول وهلة تعني بالإصبع ولكن الفراغ المحيط به هو أرض أنثوية بامتياز. على كل التفسير قاتل وأنا لم أفكر بالكثير من الأشياء والقراءات التي سمعتها اليوم، وهي مدهشة بالنسبة لي. وأعتقد أن اللوحة تحقق نوعا من الحوار وتحرض على الشعور بالالتباس أو قراءة ما ،وهي واحدة من متع الشغل باللوحة.
مغامرة جريئة يقوم بها هذا الفنان الشاب، لاقت استحسانا واستهجانا معا، ولكن عالم الأصابع المركب الملون المتشعب مرتبط بقدرية اليد، المعرض يكشف بعضا من مجانية اليد بلا أصابع، وإنه في التفاصيل المهملة في العلاقة مع الأشياء والأعضاء ثمة خيانات نقوم بها، بعدم تقديرنا لبعض الأعضاء المنسية والحميمية في أجسادنا، نظرا لألفتها وحيادها، فالعيون والشفاه والخدود والنهود لاقت كما كبيرا من المديح والغزل والتملق البصري والسمعي في الفنون بينما الأصابع لم تجد من يقوم بالاحتفال بها، رغم قدرتها المذهلة ومهمتها الأقرب للقداسة، وعلى صعيد التشكيل نتذكر إصبع (إيغون شيلي) المقطوع في لوحاته الأيروتكية العجائبية، كان حنينا لعضو سافر وحيدا، تلقفه خالد عبد الواحد بعد مئة سنة ليعيد بعضا من الاعتبار إلى الأشياء والأصابع.