رغد

نجاة عبد الصمد

خاص بدحنون

.

نحيلة القدّ “رغد”. كالغرفة التي صارت بيتا لها ولأمها وإخوتها الستة وبيت خالها… كشتلة الحبق النمنام التي حملتها معها إلى المخيم!
صاحت بها أمها: لا مكان للشتلة معنا. دعيها. لم تردّ ( بتموت بغيابنا يمّا…) حملتها بيد واحدة؛ وبالثانية كيس أغراضٍ لا ألعاب فيه.

لم تمشّط شعرها اليوم. كانت حزينه. فاحم شعرها وـ مثلها ـ حزين، يلامس كتفها ولا يغطّي خصرها ـ خصرها المخموص كعنق ساعة رملية!
باستثناء عينيها كل ما فيها صغير.

قالت لها أمها: سيأتينا ضيوف…
شردت قبل أن تختفي خلف الستارة تلبس بأناة احتياطيها الكامل من هندام الاستقبال: بيجامتها الزرقاء الجديدة وقرطها الأصفر المشنشل وشحاطة أختها. بعدها تروح إلى زاوية الغرفة تغمس يديها في وريقات الحبق وتعود لتصافحنا بنديّة!
يدها باردة و عيناها الجوزيتان مربِكتان كحلم مُشرَع للوساوس، لهما لون البلاس الفاحم في ارضية الغرفة. وفيهما عشق المضارب المحموم. مضارب ربما في حياة ما سابقة كانت دنياها كلها.

جلست أمامنا تحدّق فينا وتسرح. صوّرتْها الصبيّة الضيفة من عناصر الإغاثة. لم تعترض. كانت قد اتخذت وضعيتها قبالة الضوء الخاطف.
لم تحرك ساكنا. بالكاد همست للصبيّة: سلميني الموبايل شوية. سألمسه فقط. ما راح أخربه. صوريني و هو بإيدي و أرجعلك اياه على طول.
استحت أمها.
من أين للبنيّة بهذه الأفكار؟!…
<كنا في بيتنا نجلس إلى طبقنا الوحيد على الأرض نأكل منه جميعا. تقوم إلى المطبخ وتأتي بصحن من طقم لا أضعه إلا للضيوف. وبشوكة وسكين تسكب لنفسها، تقسم لقيماتها، تمضغ بشهية ولا تلتفت إلى الشرر في عيني أبيها.
أجلب بزر البطيخ لأولادي، تأخذ حصتها، تفصفصها على مهل وتضعها في الصحن قبل ان تبدأ باصطياد كل بزرة بالشوكة، تدنيها إلى فمها وتمسح طرف شفتيها اللتين لم يعلق بهما أثر من طعام و لا تملّ. معذبيتني والله!
والدها ليس معنا اليوم لتخشاه – مغيّبٌ عندهم منذ شهور – منذ أن آوى ( الإرهابيين ) في بيتنا. أخذوه ولا نعرف خبرا عنه. ثمّ صرنا هنا حيث لا تعثر “رغد” على صحن يخصها وحدها، ولا تعثر على أبيها. صار حزنها حزنين ولم تعد تأكل>

تتركنا “رغد” في الغرفة تحمل شتلة الحبق وتنسل صوب سيارتنا تتأملها بوجل وبرفق وبحنين. تسري يدها على حديدها تتلمسه بشغف كشيخ يستنجد بكتاب الله. تفتح بابها الخلفي. تنظر إلى المقعد الجلدي. تمسده بحنوّ قبل أن ترخي عليه مقعدها الصغير. ترفع خصلة شعر انهدلت على جبينها البض. و كما تفعل نجمة هوليودية أمام عدسات التصوير؛ تمنحنا طرف عينها قبل أن تغمضها و تحلم. لا تدري بماذا تحلم. و حين يستوي الحلم تفتحهما. تركن الشتلة أمام المقعد و تخرج. تغلق الباب خلفها باناقة مثلما فتحته!
تقول لنا: اسقوها كل يوم . لا تنسوها!

في صحيفة “رغد” سنوات ثلاث. لم تكمل الرابعة بعد. صحيفة صغيرة لم تزينها روضة الأطفال وهجاء الحروف ورسم الأرنب الذي يبدأ بحرف الألف وتشكيل الفراشات بالمعجون الملون. ونجمة أو اثنتين تطبعهما المعلمة على دفترها الأول؛
لكنها موشومة بحبها الأول !
“سيف” عاشقها الناضج. ابن خالها الذي يسبقها رصيد صحيفته بسنتين. لم يعد هنا. سحبته قذيفة عن هذي البسيطة الفسيحة كلها. منذ اسبوعين، صارت أحزانها ثلاثة قبل حزنها الرابع: المنفى الجديد!

قبل نزوحهم بأيام وقبل أن يمضي “سيف” إلى غير عودة ترافقا إلى عرس قريبهم. كثيرون أقاربهم لكنهم بدؤوا يتناقصون.
في ساحة العرس ظلاّ يرقصان معا طويلا طويلا. لم ينتبها إلى انفضاض الدبّيكة من الساحة حين داهمهم نبأ استشهاد أخ العريس، ثمّ انقطاع الكهرباء بعد ذلك بقليل. خلت الساحة إلاّ من الراقِصيْن الصغيرين. لم يلحظهما أحد ولم يلحظا أحداً ولم يسمعا النبأ ولم تصل إليهما العتمة.
“سيف” يمسك بيدها، يسند خصرها، يدلّعها “آه يا رغيده..”. يتابع تعليمها خبطة القدم بعد شقلة الخصر:
ـ رغيده !.. ارقصي هيش (هكذا). رغيده … دقي إجرش(رجلك)!…. يالله رغيده يالله… يالله … من الأول.

على الأرض في ساحة العرس دقيها! بخبطة داوية دقيّها. دعيها تُفزع هوام هذي الأرض وديدانها اللاطيه.
في رحلة النزوح دقيها، لتوقظ على وقع الخطا هذي الوجوه الصفر اللاطية ـ هي الأخرى ـ خلف شبابيك صمتها وخوفها… وعودي و دقيها هنا في مخيمك الجديد، كي لا يسأم المخيِّمون من اجترار حكاياهم ولا يمللوا من انتظار معتقليهم ولا يكفوا عن حلم العودة إلى مصطبة البيت.
دقيها بعزم ليسمعك “سيف” من (هناك ) ويفرح بأثمار دروسه ويطبع لنفسه نجمة في دفتره ـ أوّل دفتر كان سيقتنيه في أيلول القادم.

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.