حكيم

 نجاة عبد الصمد

حين تشلّختْ نعال النازحين الراكضين من كل صوب ، قاصدين (مرقد العنزة الآمن)،كان حكيم ينتعل حذاءه اللامع و يتمشى على مهل في عامه الخامس عشر… إشراقة فرحته أبهى من علاماته الشحيحة ، فللتوّ نال شهادته الاعدادية من المحاولة الأولى! يكفيه أنه لم يرسب؛ ما حاجته إلى كدس العلامات؟!

في بيته أمٌّ و أختان تكبرانه باعوام، وقطتان ناعستان، شقراء و بيضاء متشحة بالرمادي تقتتلان فيما بينهما و تتحدان في مواجهة الكلب نصف الشرس المربوط إلى حديقة المنزل.
في بيته تسهر مسلسلات قناة الدنيا وتقاريرها المنمّقة، وأخبار الفضائية السورية، وفضائيات لبنانية مرحة. يستعجل وصول الموبايل الجديد ـ هدية أبيه بمناسبة نجاحه ـ والـ (الجيل) الأجنبي ليصفّف شعره على طريقة القنفذ. لا يعرف بعد أن قدوم النازحين سيصيّرهم جزءا لصيقا من يوميات أبناء السويداء الذين ـ على اختلاف مشاربهم ـ هبّوا لملاقاتهم بفطرة الإنسان الطيّب.

اتصال رفيقه من الهلال الأحمر أنساه مؤقتا حلمه العذب بالموبايل ( التاتش).
حكيم عضو في فريق الكشاف التابع للهلال الأحمر منذ سنتين.
هناك، ومع أنشطة الهلال اكتشف متعة غامضة تؤنس وقته الخاوي: مسيرٌ ومعسكراتٌ وحجة شرعية ليبني عالما لم يرسم خرائطه بعد بوضوح ، يكفيه منه قرض الوقت والهروب من رقابة البيت الذي ـ حتما ـ لن يروق للمراهق النامي بلا سند. حكيم الذي وُلد وأبوه مسافر يكنس المال عن شوارع الخليج العربي، ونما وأبوه مسافر في الخليج، ورسب مرّة وأبوه في غياب، ونما زغب شاربيه على استحياء، وجُنّت قامته في طولها، وخشن صوته، وأرّقتْ ليله حبوبُ الشباب على وجنتيه، ولم يعرف لمن يشكوها ؛ فأبوه لا يعرف كيف يعود من الخليج!

أخبر عمه على الهاتف: سأبات الليلة في معسكر الطلائع في (مهمةٍ إنسانية)!.
وهذا العم الذي لم يكن يرى في ابن أخيه أكثر من هلامٍ  رخو لا يعد بوابل الخير، و لا ينذر بأيّ شرّ؛ ظل حتى الصباح التالي حائرا في استقراء هذه المهمة الانسانية!
تسلّم حكيم ورفاقه من مسؤولهم تفاصيل مهمتهم: احتواء الأطفال النازحين، لينسوهم العنف الذي زرعته فيهم (العصابات المسلحة)!

تختفي حبوب الشباب من وجه حكيم ، و يشرق هذا الوجه بعافية العطاء و هو يعيد ـ غير مدرك تماما لما يقول ـ :
نعم. سننسيهم العنف!

في المعسكر عرف حكيم أن الأطفال فور دخولهم التقطوا أغصان الأشجار عن الأرض. و من لم يجد غصنا قطع ( بعنف) لنفسه واحدا من الشجرة التي طالتها يداه، ودخل إلى خيمته ليقص جزءا من الحبل الذي لف به اهله صررهم و فرشاتهم ، و يجعل منه حزاما للغصن ( الرشاش) يعلقه على كتفه و يخرج إلى رفاقه الصغار مسلحا مثلهم. يشكّلون جيشين متقابلين ( حرّ و نظاميّ) و يبدؤون ألعابهم: ( المداهمة)، و( الحبس)، و ( التعذيب)، و(الانسحاب التكتيكي)…تنتهي اللعبة بأن يتضاربوا في اشتباكاتهم، و يؤذوا بعضهم بعضا. بعد قليل ينسون. و يبدؤون لعبة أكثر إثارة: يأتون بالأوراق من مطعم المعسكر، و يصنعون منها مجسمات دبابات و صواريخ،و ينتشرون:

طع..طععع… مدفعي أقوى!..
هووووووو: جاءتك طائرتي من السماء!… ززززز… طائرتي تنخفض!… بم بم بم… ترميك بقذائفها!

وعلى ارتدادات ذواكرهم الممسوخة يقضمون نهاراتهم الطويلة في المعسكر المغلق.
كانت مهمتنا صعبة ـ يقول حكيم.

في اليوم الأول أذهلنا منظرالطفلة التي تسلقت على قاعدة تمثال الزعيم المتربع وسط ساحة المعسكر، وأخذت تصفعه بعنف مجنون على وجنتيه، ركضنا إليها وأنزلناها قبل وصول الحارس الغاضب الراكض باتجاهها مهددا بعصاه الطويلة. بقينا حولها حتى استكانت وصار بإمكاننا البدء بمهمتنا.

تعالوا يا صبيان. سنلعب (الغميضة). سنكون لطيفين. لن نتدافش، والشاطر منكم سيسبق ويحزر أين يختبئ رفاقه …
غدا سننظم فريقيّ كرة قدم. سنجلب معنا كرة قدم حقيقيه.
ـ كرة قدم حقيقيه؟!… صاح الصبيان مبتهجين عائدين إلى وهج طفولتهم!
تعالوا يا بنات… فردنا أمامهن أوراقنا القليلة والألوان الزاهية وأخذنا نلعب لعبة (الحرف المفقود). بعدها نرسم شمسا وأرضا يجري عليها نهر، وحول النهر شجر وورود، وفوقه طيور تحلق بفرح. على غفلة من وعيهن الغافي صارت الصغيرات تتمشى في المرج الأخضر على الورق، وانطلقت اصواتهن بالغناء للديار البعيدة الطالعة من حنان الورق:
وطني أشجار وظلال… وترابي قمح وغلال…
أتفيأ ظلك يا وطني
و أحب ترابك يا وطني..

أرض الأجداد وطن الأمجاد…

إنجازنا الكبير كان حين استطعنا أن نجمعهم معا: صبيانا وبنات… معظمهم لم يكونوا يألفون الاختلاط.
مازال السرد على لسان حكيم! لا تستغربوا؛ هو الآخر كان يولد في وعيه الجديد من حيث لم يقصد ولم يجتهد!
ـ سنلعب معا ( من سيربح البسكوته). سينالها الأسرع في الجواب
جلسنا في حلقة واسعة، و بدأنا في حزورة (العواصم). تجولنا في القارات واستحضرنا عواصم بلدانها البعيدة… إلا روسيا ؛ قالت فاطمة (وهي أكبر البنات) وقد صارت على مشارف الفوز: بعرفها وما بدي أقولها، ولا عاصمة الصين، ولا ايران!. وفازت فاطمة، وأهدت البسكوتة إلى عنود ؛أصغر طفلة في جمع الصغيرات.
انتقلنا إلى حزورة الأسماء :
أسماء حيوانات تبدأ بحرف الألف :
أرنب … بكت هند: أرانبنا بقيوا بالبيت بكونوا ماتوا…..
الباء: بقرة… صاحت سلاف: بقرتنا إجت القذيفة ببطنها !
لم ينسوا تماما إذا؛ ولكنهم صاروا أفضل قليلا … غدا سنتابع!

حكيم ـ بالمناسبة ـ مريض بالعشق منذ أكثر من شهر. يلكزه قلبه الموجوع للتعجيل بالرجوع إلى بنت الحارة. كيف طاوعه صبره أربعا وعشرين ساعة بعيدا عن غنجها، مكتفيا ببوح على الموبايل ، أو الاكتفاء برنة أو إرسال رسالة كل ساعة… شوقه أعمى. حلم الليلة ببيت لهما وأولاد يشبهون هؤلاء… لكنه رغم عصف الشوق لا ينسى وهو يجمع أغراضه أن يسجل لائحة طويلة بتساؤلات نبتت اليوم، وصارت تؤلمه أكثر من بعده عن بنت الحارة، ولن يترك عمه إلا بعد أن يجيب عليها:
لماذا كانت الطفلة تصفع التمثال، لماذا يهلوس هؤ لاء الأطفال بالطائرات،
ما معنى الجيش الحر والجيش النظامي، ومن منهما سيقضي على العصابات المسلحة؟
ولماذا يكره الأطفال روسيا والصين، ولماذا أصابت القذيفة بطن البقرة؟

سار الأطفال معنا حتى بوابة المعسكر، بدوا حزينين لذهابنا .تسلق الصبيان السور ليتابعوا التلويح لنا وقد صرنا خارجه، ليتفاجؤوا بالحارس يشهر الكلاشنكوف في وجوههم:

“انزلوا عن السور ولا.…”
هي تحديقة خاطفة في وجه الحارس الأمين جعلت ألعاب شباب الكشاف تهرب راجفة، مخلية ساحة الذواكر الطفلة من حملة (تنسية العنف) في المعسكر المغلق!
ـ (نزعلنا كل شغلنا)… يكمل حكيم بخيبة أمل… لكننا غدا سنحاول من جديد.

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.