الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / دمشق.. باب إلى الحرية

دمشق.. باب إلى الحرية

20121119-21420873786004نور مرشد
خاص بدحنون

 

 

أعوام سبعة مرت على آخر صلة له بالحياة.. وملعب كرة القدم الذي وطأت قدميه كل ذرة تراب فيه بات ذكرى مشوشة, كتبه ترك صفحاتها مفتوحة يقلبها الانتظار, وانتزعوه من عشق بريء ظنه حينها من أخطر الأسرار على أمن الدولة عندما راحوا يفتشون ذاكرته في غرف التحقيق.

أعوام سبعة نسي خلالها أن خارج تلك الأسوار ثمة نبض حياة. بشر يعبرون الطرقات,  أحزان وأفراح تملأ شوارع مدينته, عشاق يتواعدون سرا, وأنخاب تدور في مناسبات لم تعد تعني له شيئا, فحيث هو ثمة اختصار عجيب للحب والكراهية. نسي كل تلك التفاصيل الصغيرة لحياة اغتيلت في روحه. باتت أحلامه بحجم جدران أربعة والكثير من الحديد, حتى أصبحت لعبته المفضلة قبل النوم هي الأرقام, “مرّ يوم آخر, ولو خرجت غدا فسيكون أمامي متسع من الوقت لأعيش”, ويجمع ويطرح عدد السنين والأيام والساعات التي تفوته مع مرور كل يوم,” ويعيد الكرة مبتهجا لتلك اللعبة التي كانت تساعده على الاستمرار في انتظار الحياة.

كان ذلك اليوم هو الأكثر ألما طوال تلك السنوات السبع, وكانت المرة الأولى التي يرى فيها صخب الحياة في شوارع دمشق المزدحمة. ركب في سيارة الشرطة من الخلف في طريق العودة من المستشفى إلى السجن برفقة ثلاثة من رجال الأمن بعتادهم الكامل, واحد بجانبه واثنان في المقعد الأمامي. وبفضول طفل تسمرت عيناه على نوافذ السيارة ترقب حركة المارة بدهشة. استفاقت في داخله نزعة الحياة التي تدور رحاها خلف تلك النوافذ, وشعر بالاختناق عندما أدرك ما يفوته من تفاصيلها. تمنى لو أنهم لم يصطحبوه إلى المستشفى في ذلك اليوم بعد أن أتقن لعبة العيش بين جدران أربعة أقنع نفسه بأنها ستكون عالمه إلى أجل غير معلوم.

توقفت السيارة أمام قصر العدل في وسط دمشق وعلى بعد بضعة أمتار فقط من سوق الحميدية. فتح الباب الخلفي ونزل منه الحارس الذي كان بجانبه, ترك الباب مفتوحا وتوجه نحو المبنى. رافقه بعينيه مستغربا ما يحصل حتى غاب داخل المبنى. نظر إلى الأمام ليجد الحارسين الآخرين في المقعد الأمامي منهمكان في حديث لم يكن بحالته تلك ليسمع منه كلمة واحدة. الباب إلى دمشق مفتوح أمامه. خطوات قليلة تحول بينه وبين حرية وثبت في كيانه بجنون. ثوان قليلة ويختفي في زحام سوق الحميدية. بدأ يرتجف وسرت في جسده قشعريرة لم يختبرها من قبل, أخذ يحرك قدميه وكأنه يختبرهما إن كانتا ستطاوعانه على الجري, احتبس الدم في عروقه وراح يتصبب عرقا وكأنه اجتاز دمشق من أقصاها إلى أقصاها جريا, تلفت من جديد إلى الحارسين في الأمام وكانا ما يزالان في غفلتهما, قرر أن يقفز ويجري, وقبل أن يرفع جسده عن المقعد, ارتجف قلبه .. رأى والده ووالدته وأشقائه وأخته التي أحبها كثيرا يصرخون في أقبية خبر عتمتها وبرودتها, وشعر بثقل سنوات سبع تشده إلى المقعد. كاد قلبه يتوقف عن الخفقان حين أدرك, أو ربما تدارك, أن ذلك الباب المفتوح نحو حريته, قد يكون هلاكه. مدّ يده بعصبية, أمسك مقبض الباب وأطبقه بعنف جفل منه الحارسان وانتفضا معا من غفلتهما بنظرة خاطفة إليه وأيد امتدت إلى البنادق المركونة بجانبهما, تبادلا معا نظرات بلهاء قبل ان يقول أحدهم ساخرا: “لم تعد تطيق الجلوس في مكان بابه مفتوح, أليس كذلك؟” وقهقه الآخر. اكتفى بالنظر إليهما وفي ذهنه تساؤل لم يجد له جوابا حتى اللحظة: “هل سيدرك هؤلاء يوما أن ما سخروا منه كان حريته؟”.

 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.