الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / مذكرات أحمد سويدان / المنفردة: ضجيج الصمت – قصة لأحمد سويدان*

المنفردة: ضجيج الصمت – قصة لأحمد سويدان*

أيام المنفردة ولياليها قاسية جداً. تسمع فيها صوتاً للصمت، وطنيناً للسكون. لا تتعرف على الليل و لا على النهار ولا على الوقت، إلا من خلال وجبات الطعام وصراخ الموقوفين في الساحة وغرف التحقيق… تأتي في بالك أيامك في البيت وحياتك مع زوجتك ومع الأولاد .. تحس أنك أمام هذا المحكم الشرس والمعادي للانسان والرأي والشوارع. من المحتمل أن لا تراهم.. وإذا رأيتهم فيكون ذلك من صدف التاريخ النادرة. فترة التحقيق تتمنى العودة للمنفردة والتكوم على الخروج منها. الخروج منها يعني الضرب المبرح، والوجع واللبط دون أي اعتبار للسن “اعتقلت وأنا في السادسة والأربعين في نيسان ١٩٨٢” .

أمران رسخا في وجداني وأنا بالمنفردة:

الأمر الأول جاري في المنفردة الذي تكلم معي في آخر الليل دون أن أعرف اسمه أو بلده، قال: سأودعك يا جاري هذه آخر ليلة لي في هذه الحياة .. الموت أهون لي من هذا العذاب .. اسمي. وهنا فتح السجان الباب، كانت الساعة تشير حتماً إلى أكثر من ساعتين بعد منتصف الليل. قال السجان: إن سمعت همساً مرة أخرى ستنال جزاءك .. احترم عمرك سأدوس عليك حتى تتكسر عظامك.

تكومت في زاويتي ورحـت أتأمل السكون المهيمن والضوء الشحيح القادم من الكوة ونمت. في الصباح دخل عليّ ضابط وعدة عساكر سألوني متى نمت ؟ .. وهل سمعت شيئا ً؟ .. وهل كلمت أحد أو صرخ عليك نزيل ما ؟ .. فنفيت ذلك … فيما بعد علمت أن جاري شنق نفسه بمزق من بطانيته شدّها ووصلها ببعضهما وصنع منها أنشوطة علّقها في قضبان الكوة المتينة.

مات جاري في الزنزانة اتقاء السياط، والعصي والتعليق والتفنن في أساليب إثارة الألم تاركاً عبر المسافات أماً تبكيه بلا صوت أو أباً يغالب ألم الفقد.

الأمر الثاني الذي عذبني , ولا يزال , صوت النسوة وهنّ يتلقين السياط والسباب والبذاءة، وهن يستجرن بالله .. ويصرخن ويبكين .. صراخ الثاكلات الخائفات الواجفات. كان هذا يتكرر يومياً، وفي المساء وعند المغرب والعشاء.. وعندما يذهبن إلى المهجع، كنت أسمع أصواتاً وبكاء الأطفال فتطبق المنفردة على قلبي وصدري. كنت أتساءل مذهولاً: هل هذا الذي تنفذه أجهزة شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية هو لصالح الأمريكان أم لصالح اسرائيل أم لصالحهما معاً ؟ .. وأن دور الشعارات هو للتغطية والتمويه ؟ .. إن الحكم الفردي هو بالتأكيد لصالح الخارجي لأنه ضد الانسان والوطن والشعب وأن العدو الأمريكي لا يريد أوطاناً لهذه المنطقة، ولا يريد شعوباً وكذلك لا يريد إنساناً.

————-
* أحمد سويدان، روائي، صحفي وسياسي سوري.
 لمراجعة السيرة الذاتية راجع  – هذا الرابط –

ملاحظة: هذه القصة هي الأولى من مجموعة من خمسة قصص سننشرها تباعاً  لأحمد سويدان

عن أحمد سويدان

أحمد سويدان
أديب وصحفي متقاعد من مدينة السلمية، معتقل سياسي سابق لمدة إثنا عشرة عاماً ونصف 1982- 1994. أصدر بعد خروجه من المعتقل ثلاث روايات قصيرة: الزمن العقاري، كذبة نيسان، ومرآة الأنام، حيث تمكن من إعادة انتسابه لإتحاد كتاب العرب، بالإضافة لمجموعة قصصية عن مدينة السلمية بعنوان "خيوط تقطعت".

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.