رسم لغيلان الصفدي من مجموعة حزن سوري

تخمينات!

هديل ممدوح
خاص بدحنون 

 

يبدو أنّ الجرعةَ اليوميّة من المسكّنات لم تعد كافية، ولن تفي أدويةُ ضبط الأعصاب بالغرض الّذي اخترعت من أجله، فقط حين ينتظرُ السوريّونَ موتهم اليوميّ، اللامعقول!

على الأرصفة الخشبيّة الّتي تمّ إعدادها على عجل، كلّ رصيفٍ يتّسِعُ لجسدٍ مسجىً واحدٍ، وضعوا خمسةَ أجسادٍ على رصيفٍ واحدٍ، فقط عندما تكونُ هذه الأجسادُ صغيرة، كان ذلك رصيفاً قاتماً لأطفالٍ لفّوا كزنابق في حيّ الحمرا في حلبْ.

يبدو أن لا منجاةَ في الصّلاة، ولا جدوى من تضرّعٍ وخشوع، فقط عندما يُعثَرٌ على جسدِه مرميّاً في المدن الأكثر أماناً بعد أن اختطف لمدّة شهر، أمّه كانت قد قررت بيع البيت لدفعِ الفدية، لكنّهُ أعفاها من هذه المهمّة الصعبة! وأبقى لها الكثيرَ الكثيرَ من الصّور الّتي باتت من الصور الأكثر شهرةً في اليومين الماضيين!

على الهاتفِ المتحرّك، والّذي أغرقنا بنعمِ التكنولوجيا، تصلني رسالةً من صديقي، قال إن عائلتهُ تنوي النزوح، من المنطقة الّتي لاتزالُ تحت سيطرة الجيش النظاميّ، فلم يعُد بالإمكانِ احتمالُ انتظارِ القتل المفاجئ، أو السطوِ المسلّح، الّذي تمارسهُ العصاباتُ المستترة تحت عدّة مسميّات!

يبدو أنّ لا مفرّ من اليأس، فقط عندما نفتح هذا الأنبوب الّذي يكادُ ينفجر لكثرةِ ما مُمر به وعليه وإليه، دكّ بكلّ أنواعِ الفيديوهات، التعليمية والتوثيقية، والأغاني القديمة والجديدة، والأفلام الرخيصة والأخرى الحائزة على أهم الجوائز العالمية، هذا الأنبوب الّذي يحملُ تاريخ ثورتنا وأحداثها وأرشيفها، نفتحُهُ فيطالعنا وجهٌ لطفلٍ “كانَ طفلاً” يحمِلُ ساطوراً أثقل منه، ويهمّ بقطعِ رأس خائن!

على الشّريطِ الإخباريّ للقناة الشّهيرة، والّتي تعتبر نفسها قد تبنّت “الموضوعية ”  مذ اندلعت قيامةُ سوريا أو ثورتها! يظهرُ الشريطُ المقيت، ويقول بخطٍ عريضٍ وفجّ :”الحرب في سوريا”! حسناً لقدْ أكلتُم نصفَ حقّنا، ووضعتم تاريخاً عُمره سنتين من المعجزات على طاولةِ الرّهان، وأدتُم أحلى كلمات القواميس قبلَ أن تتنفّس على شاشتكم! نحنُ في ثورة يا سادة، نحنُ على طريقِ الجلجلة، لم نكن في أزمة ولسنا في حرب!

يبدو أنّه لا مفرّ من اليقينِ لا مفرّ من الأمل، فقط عندما ينشرُ صديقي القادِم أخيراً إلى أرضِ الوطن، بعدَ غربةِ سنين، ينشرُ صورةً لزهرِ اللوز التقطها فورَ وصوله، ولم يُعنى بأن يصوّرَ ما تدمّر من بيوتٍ حوله! لم يصوّر دماً ولا سلاحاً ولا شظايا ولا بقايا ولا أشلاءَ ولا ضحايا، ولا العوَز ولا الفقر ولا القهر، تلك لقطات باتت عادية، زهرُ اللّوزِ هو اليقين، هو النّصر.

على التشات المتواضع، يكتبُ صديقي بغصّة، بعدَ أن وصلَ إلى حدودِ مدينته الّتي لا يستطيعُ دخولها رغمَ المسافة الّتي لا تتجاوز الكيلو مترات، يكتب: “كل يوم بوقف قبال درعا وببكي.. ليطقّ قلبي!” هذا الأسمرُ الشّقي الضّاحك دوماً، لم يدخل درعاه منذُ سنين!

يبدو أنّه لا بدّ من حبّ، فقط حين يتمايَلُ القدرُ، وتضطرّ طفلةٌ لإخاطةِ جرح جنديّ أصيب برأسه، ويمشي معظمُ البشرِ على رؤوسهم موجّهين أقدامهم للسّماء ويتحدّثون بالمؤامرة الكونيّة!  ويُداهمُ المشفى الميداني على أنّهُ وكرُ إرهابيين! لا بدّ من حبٍّ حينَ يعتقلُ الوطن، وتطلَقُ الطوائف وحينَ تضربُ الذكرياتُ بصواريخِ سكود! تلك الّتي أجهلُ فرقَها عن باقي الصواريخ!

 

عن هديل ممدوح

هديل ممدوح
مدوِّنة ومترجمة إلى اللغة الإنكليزية

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.