نميريات – ٣

سأدخل في لبّ الموضوع دون مقدمات ..
جدتي تدعى عائشة عليّان (فلسطينية )و تلقّب (أم هرّو ), دُفنت في مقبرة دوما, بعد جنازة مهيبة , رغم أنها كانت تعيش بالحارة الشرقية في جوبر, في بيت عربي- موجود في آخر الزاروب المسدود بشادر قماشي-بما يشبه الوحدة المطلقة.
تزوّجت مرتين, أولاها من توفيق, و أنجبت منه شفيقة ووفيقة و فريال و كوثر .
و الثانية من سليم, و أنجبت منه زياد و جهاد و نادية .
كانت تجلس (بتمّ الحارة ), على كرسي من القش, و تهمّ بأن تكشف عليّ كلما أتيت أمام جاراتها , لأنها تريد تزويجي, رغم اني لم أكن اتجاوز التاسعة من العمر !
ماتت (بهداك المرض ), هي و ابنتيها وفيقة, و فريال.
دُفنوهنّ جميعا في مقبرة دوما .
قبل وقت ليس ببعيد, نزلت عليهنّ قذيفة من غامض علمه !
كوثر مازالت موجودة في جوبر تحت القصف .
زهير أخو أبو سمير (مختار الحارة ) تلقّف رصاصة قناص, و استشهد هو و ممدوح الحرستاني .
جهاد و أمير الوحش , اعتُقلا على الحاجز, ثم وجدا على قارعة الطريق بلا أرواح .
الفتى عمار الطصلق راح بقناص على حاجز زملكا, و أمو دبلت عيونها عليه .
الشب الحليوة حذبفة كامل استشهد بمعركة تحرير المطار مع الجيش الحر .
فراس دحروج راح بالقصف .
فواز بدر صاحب محل البيع بالجملة, راح بالقصف أيضا لكنه كان بالملجأ حينها.
-الآن, ما الغاية من كل هذا الكلام ؟
-محاولة فاشلة في الدخول إلى الذاكرة, و الخروج دون كدمات في الوجه!

……

كل شيء سينتهي عما قليل،كل شيء سيكون على ما يرام،لا عليك يا صديقي ،جروح الناس تبرأ، و لكن فكر معي،كيف سنوقف نزيف هذه الدّور ،الدّور التي يسيل طلاؤها من ثقوب الجدران ، و التي شنقت نفسها بحبال الغسيل ، حين رفرفت رايات العدا على أساطيحها !

أنت تعلم, أنه ليس ثمة ما تتهدم به البيوت ،أكثر من غياب أهلها ، هذا الغياب الثقيل ،الذي يكسر الظهر ،و تلتمع له نواجذ العدو تبسما، فتلك رايته التي لا يراها سواه !

…..

لم أكن أعلم أني متعلق بجذع هذه الشجرة
إلا حين جاءت الريح ,و انخلع كتفي

…..

ذلك الرجل
ذلك الرجل المرمي في قعر الجب
وحيدا
و مستوحشا
تُربكه كثرة الحبال المدلّاة

…..

لا وقت يصلح للهدر , أو مجال لالتقاط الأنفاس
و هذا أمر مقلق
المزاج ليس جيدا في العموم
و هذا أمر مقلق أيضا
زد على ذلك
أن بيوض الذباب بدأت بالتفقس في هذه الآونة
و هذا ليس أمرا طيبا على الإطلاق …
تقولُ كاسات الشاي المُحلّاة, المتروكة على الطاولة !

……..

نحن هنا وسط هذا الخراب
هذا الخراب المطلق
الذي لو جاء أحد الأنبياء مبشرا به قبل قليل من الآن
لرميناه بالأحذية

……..

العاصفة الهوجاء

لا تخيف إلا أولئك الذين ينظرون إليها من بعيد..

أولئك  الأوغاد,

الذين يقولون : يا للهول!

 وهم يهشون الذباب عن أنوفهم !

….

لهذا المساء
لهذا المساء الدامي تحديدا
للأرواح الصاعدة على سروج من الفضة
للدراويش في دمشق ، باعة الفول و البليلة و التماري
للشنططة و المشي طويلا في دون مبرر واضح
لأصدقائي الأوغاد ، و أعدائي الحمقى

وحبيبتي البعيدة
لهؤلاء جميعا
أهدي وميض عيني
الذي ناس في هذا المساء
في هذا المساء تحديدا