مرة… أعلن أحد السجناء في المهجع المقابل إضراباً مفتوحاً عن الطعام.
حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه…
تعبت الأحذية والقبضات والعصيّ.
أثناء التنفس… أثناء توزيع الطعام… وفي الليل عبر الشراقة الفاغرة في السقف.
أحياناً كانت أمواج الهستيريا الذئبية تنعقد وتفور، وهي تمارس انتقاماً مجروحاً بالعنانة ومختوماً بالموت، لكن لا تلبث تلك الأمواج أن تتكسر على سد الأجساد البشرية التي تخرج من المهجع كقطيع مذعور، وتدخله كقطيع مذعور، وتصطف أثناء التنفس كقطيع فقد إيمانه بالجدوى الانذارية التي يمثلها الرعب.
بين موجتين أحضر الشرطي فأرا ميتاً.
ربما كان ينوي إطعامه لذلك السجين المضرب عن الطعام، ولكن حالة السجين على ما يبدو، لم تكن قابلة لغير الموت. لهذا كان الفأر من نصيب أقرب سجين إلى الشرطي.
كنا حينها اكثر من عشرين عيناً تتوامض متقاطعة وهي تتزاحم على ثقوب الباب.
أدخل الشرطي فأره في فم السجين، وأمره أن يبتلعه ابتلاعاً بدون أي مضغ. حاول السجين في البداية قليلاً قليلاً… ولكن في منتصف الطريق بدأت عضلات وجهه تتقبّض وترتجف.
لو اي شيء غير هذا الفأر الميت!!!
لو كان مسلوخاً على الأقل!!!
أدار السجين رأسه بحركة لولبية بطيئة وهو يضغط على العنق.
كانت يداه… كأنما تشدان شيئاً ما، ولكن بدون جدوى.
باعد قدميه… أو تباعدتا وهو يوازن حركته مخالفاً ما بين دفع عنقه إلى الأمام، ونتر يديه إلى الخلف.
أن يبتلع الفأر إنساناً… يبدو لي أسهل من أن يبتلع الإنسان فأراً!!
عاد السجين يمط عنقه، بينما كان جسده يتلوى وينحني هابطاً إلى نقطة تمكنه من الانتفاض مجدداً، فيقمح برأسه على طلقات متتالية، ومع كل طلقة يخطف يديه إلى الخلف، ويستعيدهما بلجلجة واضطراب ليخبط بهما في اكثر من اتجاه، مثل غريق يبتلعه الهواء.
سكن للحظات بدا فيها مستنزفاً إلى آخره…
– يا ابن الشرموطة إياك أن تمضغ.
يلكزه الشرطي في خاصرته.
– قلت لك أن تزلطه زلطاً إلى النهاية.
فجأة عاد السجين يحاول، وقد أطبقت كفاه على عنقه وراح يضغط حيناً ويمسّد حيناً بحركات متشنجة ومتواترة.
بين كل حركة وأخرى تنفلت يداه وهما تلوبان على شيء ما في الفراغ، ثم يعيد المحاولة وتنفلت يداه…
أين يقع مفترق الله مع الإنسان، مفترق الأرض مع السماء، الحياة مع الموت… أين؟
– يا منيوك لا تحرك فكيك… قلت لك زلطاً.
لم يزل السجين يحاول… مرة… اثنتين… ثلاثا… أربعاً…
سقط على ركبتيه.
– انهض يا كلب يا خرا… قلت لك انهض… ترفض الأمر العسكري؟ بسيطة… إذا بقيت حياً نتحاسب.
نهض السجين. دار دورتين في المكان وهو يدق صدره بقبضتيه ثم ما لبث أن بدأ ينتفض ويترنح، إلى أن بلغ أقصاه وبدا واضحاً أن ضريبة إعلان عجزه، لن تكون اكثر سوءاً من الاختناق، فنزل على ركبتيه مردفاً رأسه إلى الخلف، وهو يشير بيديه مستغيثاً يطلب الماء.
كان الجزء الاخير من ذيل الفأر، لا يزال متدلياً عند زاوية الفم.
آخ يا تدمر آخ…
لم أكن أنوي الدخول في هذا الاستطراد المرهق… ولست مقتنعاً الآن بالتراجع عنه، ولم يعد لديّ القدرة على العودة إلى تفاصيل ما تعرض له ذلك السجين المضرب خلال الأربعة، أو الخمسة أيام اللاحقة.
أعتقد أن بإمكانكم مساعدتي، أو على الأقل تفهّم وغفران عدم قدرتي، وربما عدم رغبتي في استكمال ما بدأت.
لقد حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه. تعبت الأحذية والقبضات والعصيّ، ولكنه…
هل يكفي القول ان ما تعرّض له ذلك السجين منفرداً، يفوق ما تعرض له المهجع مجتمعاً؟ ومع ذلك المسكين… لم يمت!!!
فقط اصبح مجنوناً…
اصبح مجنوناً… فقط.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.