فصل من مخطوط “خيانات اللغة والصمت”
زمامير ورقص وضحكات وإطلاق رصاص!!
هكذا كان عرس استقبال سيارة الدوريَّة، التي اعتقلتني، وهي تجتاز الحاجز الأخير المفضي إلى باحة الفرع.
ـ أهلاً وسهلاً بالمناضل الكبير!!
ـ منذ سنوات ونحن ننتظر أن تشرِّفنا بهذه الزيارة المباركة.
ـ تتهنَّى يا عم.. الآن ستشبع نضالاً.
ـ افتحوا باب السيارة للأستاذ.
ـ تفضل أستاذ لا داعي للخجل..
ـ ولو.. أنت على العين والراس في ضيافة فرع فلسطين.
لست أدري لماذا يحمِّلون تعليقاتهم كل هذا القدر من السخرية والشماتة؟!
فظيعة هذه الدقائق..
في رأسي ما يشبه الفجوات، وما يشبه الموج، وما يشبه عنفات شيطانية تدور على نحو مجنون وفي أكثر من اتجاه.
اللعنة.. لم يتركوا لي أي فرصة للهرب، كان الحي مطوَّقاً: مسلحون على الأرض.. على الأسطح.. سيارات على المداخل.. وبضعة عناصر يحيطونني بمنتهى اليقظة والريبة والقلق.
لا بأس .. قد يتاح لي في أحد المنعطفات، أن أفتح باب السيارة، وأرمي بنفسي. صحيح أنها محاولة ضعيفة ولكن ربما..
لكأنهم يقرؤون أفكاري، فالسيارة تندفع مثل قذيفة، لا تلقي بالاً إلى المفارق والمنعطفات.
لم يزل أمامي فرصة محتملة للهرب لحظة وصولي إلى الفرع.. ولكن ماذا لو لم أفلح؟ ما هي حدود مناورتي في الساعات الأولى ؟ كيف سأتخلَّص من بعض الأوراق الصغيرة المخفية في جيوب داخلية؟ ثمة ورقة ملعونة.. لو نجحوا في حل شيفرتها، أو إجباري على حلها، فعلى قيادة الحزب السلام.
ـ حاذر.. أخفض رأسك قليلاً وأنت تنزل.
تنبَّهت إلى ضرورة أن يكون رأسي مرفوعاً بعد أن أترجل وأسير بينهم. ينبغي أن أترك لديهم انطباعاً واضحاً من القوَّة والتماسك. لم أكن أتوقع أنني لاحقاً، سأضطر إلى المناورة، وإحناء رأسي أكثر من مرَّة.
تقدمت بخطوات تبدو ثابتة، رافعاً رأسي، وشابكاً يدي خلف ظهري.
في الحقيقة كانتا مقيَّدتين إلى الخلف بكلبشة ذات سوارين.
في الغرفة الأولى فكوا الكلبشة، وأخذوا مني ما يسمى “الأمانات” من نقود وساعة ونظارة وبطاقة هوية مزوَّرة وما لا أدري، ليتابعوا بعدها إلى الداخل:
كوريدور عريض.. على جانبيه غرف مكاتب أو تحقيق.
لن أستغرب شيئاً، فلدي تصور أوليّ عن مخطط الفرع ومعظم ضباطه.
كان أكثر ما يشغلني هو دراسة المداخل والمخارج وإمكانيات الهرب.
فيما بعد سأعرف أن هاجس الهرب ظل يرافق معظمنا لسنوات عديدة.
فجأة فتحوا باب غرفة إلى اليسار وأدخلوني. وضعوا طميشة على عيوني ثم خرجوا، وأغلقوا الباب. سمعت وقع خطواتهم يبتعد.
ما كدت أبتلع الورقة الملعونة حتى فتحوا الباب.
جولة عاصفة من الصفع والركل والقبضات.
ـ أحضِروا العُدّة.. قال أحدهم ثم أضاف: وأنت أيها المناضل إخلع كامل ملابسك..
ليست هذه أول مرَّة أتعرض فيها للتحقيق، فقد سبق وتعرضت قبلها مرتين للاعتقال، ولا يخفى علي معنى أن يكون المرء عارياً خلال التحقيق، أو مكشوفاً ومراقباً في السجن الذي سينقلونه إليه بعد انتهاء التحقيق.
كانت الصراخات والتهديدات والأسئلة، تتشظى وتتبعثر في أكثر من منحى، وأنا صامت تماماً.
توقفوا للحظات، ثم سألني أحدهم عن اسمي، فقلت إنني لن أجيب قبل أن يحضر رئيس الفرع.
ـ نحن نعرف ما اسمك الحقيقي والحركي أيضاً، ولكن نريدك أن تقوله أنت.
ـ لن أقول أي شيء قبل أن يحضر رئيس الفرع.
ـ أرسِلوا له وراء رئيس الفرع. قال أحدهم، وراح يسأل عن المواعيد الدورية والاحتياطية وعن بيتي الحقيقي.. إلخ.
تبدو أسئلتهم أكثر دقة وخبرة مما كانت عليه في السابق.
لا شك أن صراعهم أو تجربتهم مع حزب الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى انهيار أحد كوادرنا، وخيانة أحد الأعضاء في الشهور الأخيرة، قد منحهم قدراً وافراً من الخبرة والمعلومات حول كثير من الأمور، بما فيها طرائق وآليات عمل الحزب ودفاعاته.
لم أكن أريد بتمسّكي من حضور رئيس الفرع سوى اللعب بمزيد من الوقت، ريثما يعلم الرفاق باعتقالي، ويتخذون الإجراءات الضرورية.
أصوات أقدام تدق الأرض بقوة إشارة إلى تقديم التحية العسكرية:
احترامي سيدي..
احترامي معلم..
ثم هدوء ثقيل متربص لبضع ثوان، يبدو زمنها النفسي أشد وطأة من الماراثون.
ـ خير يا بني.. لماذا طلبتني؟
لا شك أن الحديث موجَّه إلي.. لعنة الله على الطميشة. إنها تستكمل المعنى المقصود من جعلك عارياً ومكشوفاً ومراقباً.
لا أعرف لماذا افترضت، أنهم يمكن أن يضحكوا علي بتمثيلية حضور رئيس الفرع، فقلت:
لم أطلبك أنت..
تغيّر صوته، وتلجلج قليلاً، وهو يسأل:
ـ ألم تبلغوني أنه يريد مقابلتي؟
ـ نعم معلم.. هو الذي رفض أي كلام، حتى تحضر سيادتك.
ـ هل أفهم أنك تراجعت عن طلبك؟
ـ لا.. ما زلت مصراً على مجيء رئيس الفرع.
ـ هل تشك بأني لست رئيس الفرع؟
ـ بل متأكد أنك لست هو.
ـ ما الذي يجعلك متأكداً؟
ـ صوتك.
ـ ما به صوتي؟
ـ يبدو ضعيفاً متردداً، وصاحبه غير واثق بنفسه، كما أن عمره أصغر بكثير من العمر الزمني المحتمل لرئيس الفرع.
بضعة أسئلة أخرى، ولم يعد ممكناً مواصلة اللعبة، فأوقفوا تمثيليتهم، وأبلغوا رئيس الفرع حقاً هذه المرة، فحضر على الفور، وليته لم يحضر.
ـ إرفعوا الطميشة عن عينيه.
كان وراء الطاولة رجل ستيني أشيب ممتلئ، ينظر إلي بابتسامة هادئة، يتخللها شيء من التعاطف المشبوه.
لم يطل كثيراً وقت الأسئلة والمناورة، ليكتشف رئيس الفرع، أنني لا يرهبني سيف المعز، ولا يغريني ذهبه، فنهض وملامحه تتقبّض وتعتكر وتكفهر.
ـ شوفوا حسابكم معه.. يبدو أنه ينوي أن يظل بغلاً.
قالها وخرج تاركاً وراءه صمتاً أسود، ونجيعاً أسود، واحتمالات كالحة ومدججة بما يشبه الألغام.
إذن بعد قليل ستدور مسنَّنات آلاتهم ، ستترنح الجهات والمسافات، وستنفلت في هذا المجتلد قطعان كثيرة من الضواري والوحوش المفترسة.
لدي معرفة وافية حول أدواتهم وأساليبهم المعهودة في التعذيب. لم أكن أفكر بما سينجم عن ذلك من آلام لحظية. كنت أفكر بالعتبة التي يستطيع الإنسان تحملها.
أعرف نظرياً أن الإنسان أكثر قدرة، على التحمّل والتلاؤم والصبر الجسدي والنفسي، من أي كائن آخر بما في ذلك الخيول.
ساعدني يا ألله.. ساعديني يا أمي.. ساعدني أيها الحب.. أيها الحزن.. أيها اليأس..
وأنت يا حنان جهنم.. ساعدني.
هكذا كان عرس استقبال سيارة الدوريَّة، التي اعتقلتني، وهي تجتاز الحاجز الأخير المفضي إلى باحة الفرع.
ـ أهلاً وسهلاً بالمناضل الكبير!!
ـ منذ سنوات ونحن ننتظر أن تشرِّفنا بهذه الزيارة المباركة.
ـ تتهنَّى يا عم.. الآن ستشبع نضالاً.
ـ افتحوا باب السيارة للأستاذ.
ـ تفضل أستاذ لا داعي للخجل..
ـ ولو.. أنت على العين والراس في ضيافة فرع فلسطين.
لست أدري لماذا يحمِّلون تعليقاتهم كل هذا القدر من السخرية والشماتة؟!
فظيعة هذه الدقائق..
في رأسي ما يشبه الفجوات، وما يشبه الموج، وما يشبه عنفات شيطانية تدور على نحو مجنون وفي أكثر من اتجاه.
اللعنة.. لم يتركوا لي أي فرصة للهرب، كان الحي مطوَّقاً: مسلحون على الأرض.. على الأسطح.. سيارات على المداخل.. وبضعة عناصر يحيطونني بمنتهى اليقظة والريبة والقلق.
لا بأس .. قد يتاح لي في أحد المنعطفات، أن أفتح باب السيارة، وأرمي بنفسي. صحيح أنها محاولة ضعيفة ولكن ربما..
لكأنهم يقرؤون أفكاري، فالسيارة تندفع مثل قذيفة، لا تلقي بالاً إلى المفارق والمنعطفات.
لم يزل أمامي فرصة محتملة للهرب لحظة وصولي إلى الفرع.. ولكن ماذا لو لم أفلح؟ ما هي حدود مناورتي في الساعات الأولى ؟ كيف سأتخلَّص من بعض الأوراق الصغيرة المخفية في جيوب داخلية؟ ثمة ورقة ملعونة.. لو نجحوا في حل شيفرتها، أو إجباري على حلها، فعلى قيادة الحزب السلام.
ـ حاذر.. أخفض رأسك قليلاً وأنت تنزل.
تنبَّهت إلى ضرورة أن يكون رأسي مرفوعاً بعد أن أترجل وأسير بينهم. ينبغي أن أترك لديهم انطباعاً واضحاً من القوَّة والتماسك. لم أكن أتوقع أنني لاحقاً، سأضطر إلى المناورة، وإحناء رأسي أكثر من مرَّة.
تقدمت بخطوات تبدو ثابتة، رافعاً رأسي، وشابكاً يدي خلف ظهري.
في الحقيقة كانتا مقيَّدتين إلى الخلف بكلبشة ذات سوارين.
في الغرفة الأولى فكوا الكلبشة، وأخذوا مني ما يسمى “الأمانات” من نقود وساعة ونظارة وبطاقة هوية مزوَّرة وما لا أدري، ليتابعوا بعدها إلى الداخل:
كوريدور عريض.. على جانبيه غرف مكاتب أو تحقيق.
لن أستغرب شيئاً، فلدي تصور أوليّ عن مخطط الفرع ومعظم ضباطه.
كان أكثر ما يشغلني هو دراسة المداخل والمخارج وإمكانيات الهرب.
فيما بعد سأعرف أن هاجس الهرب ظل يرافق معظمنا لسنوات عديدة.
فجأة فتحوا باب غرفة إلى اليسار وأدخلوني. وضعوا طميشة على عيوني ثم خرجوا، وأغلقوا الباب. سمعت وقع خطواتهم يبتعد.
ما كدت أبتلع الورقة الملعونة حتى فتحوا الباب.
جولة عاصفة من الصفع والركل والقبضات.
ـ أحضِروا العُدّة.. قال أحدهم ثم أضاف: وأنت أيها المناضل إخلع كامل ملابسك..
ليست هذه أول مرَّة أتعرض فيها للتحقيق، فقد سبق وتعرضت قبلها مرتين للاعتقال، ولا يخفى علي معنى أن يكون المرء عارياً خلال التحقيق، أو مكشوفاً ومراقباً في السجن الذي سينقلونه إليه بعد انتهاء التحقيق.
كانت الصراخات والتهديدات والأسئلة، تتشظى وتتبعثر في أكثر من منحى، وأنا صامت تماماً.
توقفوا للحظات، ثم سألني أحدهم عن اسمي، فقلت إنني لن أجيب قبل أن يحضر رئيس الفرع.
ـ نحن نعرف ما اسمك الحقيقي والحركي أيضاً، ولكن نريدك أن تقوله أنت.
ـ لن أقول أي شيء قبل أن يحضر رئيس الفرع.
ـ أرسِلوا له وراء رئيس الفرع. قال أحدهم، وراح يسأل عن المواعيد الدورية والاحتياطية وعن بيتي الحقيقي.. إلخ.
تبدو أسئلتهم أكثر دقة وخبرة مما كانت عليه في السابق.
لا شك أن صراعهم أو تجربتهم مع حزب الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى انهيار أحد كوادرنا، وخيانة أحد الأعضاء في الشهور الأخيرة، قد منحهم قدراً وافراً من الخبرة والمعلومات حول كثير من الأمور، بما فيها طرائق وآليات عمل الحزب ودفاعاته.
لم أكن أريد بتمسّكي من حضور رئيس الفرع سوى اللعب بمزيد من الوقت، ريثما يعلم الرفاق باعتقالي، ويتخذون الإجراءات الضرورية.
أصوات أقدام تدق الأرض بقوة إشارة إلى تقديم التحية العسكرية:
احترامي سيدي..
احترامي معلم..
ثم هدوء ثقيل متربص لبضع ثوان، يبدو زمنها النفسي أشد وطأة من الماراثون.
ـ خير يا بني.. لماذا طلبتني؟
لا شك أن الحديث موجَّه إلي.. لعنة الله على الطميشة. إنها تستكمل المعنى المقصود من جعلك عارياً ومكشوفاً ومراقباً.
لا أعرف لماذا افترضت، أنهم يمكن أن يضحكوا علي بتمثيلية حضور رئيس الفرع، فقلت:
لم أطلبك أنت..
تغيّر صوته، وتلجلج قليلاً، وهو يسأل:
ـ ألم تبلغوني أنه يريد مقابلتي؟
ـ نعم معلم.. هو الذي رفض أي كلام، حتى تحضر سيادتك.
ـ هل أفهم أنك تراجعت عن طلبك؟
ـ لا.. ما زلت مصراً على مجيء رئيس الفرع.
ـ هل تشك بأني لست رئيس الفرع؟
ـ بل متأكد أنك لست هو.
ـ ما الذي يجعلك متأكداً؟
ـ صوتك.
ـ ما به صوتي؟
ـ يبدو ضعيفاً متردداً، وصاحبه غير واثق بنفسه، كما أن عمره أصغر بكثير من العمر الزمني المحتمل لرئيس الفرع.
بضعة أسئلة أخرى، ولم يعد ممكناً مواصلة اللعبة، فأوقفوا تمثيليتهم، وأبلغوا رئيس الفرع حقاً هذه المرة، فحضر على الفور، وليته لم يحضر.
ـ إرفعوا الطميشة عن عينيه.
كان وراء الطاولة رجل ستيني أشيب ممتلئ، ينظر إلي بابتسامة هادئة، يتخللها شيء من التعاطف المشبوه.
لم يطل كثيراً وقت الأسئلة والمناورة، ليكتشف رئيس الفرع، أنني لا يرهبني سيف المعز، ولا يغريني ذهبه، فنهض وملامحه تتقبّض وتعتكر وتكفهر.
ـ شوفوا حسابكم معه.. يبدو أنه ينوي أن يظل بغلاً.
قالها وخرج تاركاً وراءه صمتاً أسود، ونجيعاً أسود، واحتمالات كالحة ومدججة بما يشبه الألغام.
إذن بعد قليل ستدور مسنَّنات آلاتهم ، ستترنح الجهات والمسافات، وستنفلت في هذا المجتلد قطعان كثيرة من الضواري والوحوش المفترسة.
لدي معرفة وافية حول أدواتهم وأساليبهم المعهودة في التعذيب. لم أكن أفكر بما سينجم عن ذلك من آلام لحظية. كنت أفكر بالعتبة التي يستطيع الإنسان تحملها.
أعرف نظرياً أن الإنسان أكثر قدرة، على التحمّل والتلاؤم والصبر الجسدي والنفسي، من أي كائن آخر بما في ذلك الخيول.
ساعدني يا ألله.. ساعديني يا أمي.. ساعدني أيها الحب.. أيها الحزن.. أيها اليأس..
وأنت يا حنان جهنم.. ساعدني.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.