هذه الصرخة القديمة جداً..
كما أيقظت عشرات الملوك قديماً، وكما أرعبت آلاف العبيد حديثاً،هاهي توقظنا في الليل نرتجف برداً، مرعوبون من أصوات ” تشفيط” السيارات على اوتستراد المزة، و من الجريمة التي بلا صوت..
عائدون يا دمشق ….كنا نرددها في كل مرة نغادر المدينة الجامعية إلى قرانا و بلداتنا حاملين ” الغسيل” و أجرة الطريق و “بعض الحكايا”..
وفي مُدننا كان الأهالي يشيرون إلينا بحسد “يدرسون في دمشق _ يعملون في دمشق”، و في دمشق يشار إلينا بشفقة “طلاب _ عمال”.. وبين الحسد و الشفقة كانت تتدلى عقولنا خرساء..
وكذلك في كل مرة نمر ّجانب أحد الفنادق الفاخرة لينطلق السؤال السرمدي: بتعرفوا بكم فنجان القهوة هون؟
كنا نرددها عندما كنا ” نلّز” على الفتاة التي تجلس بجانبنا في السرفيس، أو نتبرع لها بمكاننا دون أن تلاحظ..
وعندما تقودنا أقدامنا إلى الأحياء الراقية ، و كلما مرت سيارة بلا صوت من أمامنا صباحاً و بخار أبيض جميل يتصاعد من أطرافها….
عندما نتكوم في التكسي..
عندما نستعيض عن القهوة صباحاً بعلبة “زاهي بالنعنع”….
عندما نكذب بكل شئ و ندّعي أننا جلسنا في المقاهي و سكرنا في النوادي الليلية و شربنا الكوكتيل عند ” أبو شاكر”….
كنا نرددها عندما كانت دمشق ترفضنا و تطردنا و تحرص على أن نسير جوعى و خائفين في شوارعها….
في مواقف السرفيس، و في نفق المدينة الجامعية، و على زاوية شارع لوبيا في اليرموك، و تحت المتحلق الجنوبي و جسر الثورة، في أزقة الحميدية، و حارات باب توما … في كل مكان …كانت أقدامنا تضرب الأرض بعصبية و نصرخ في أعماقنا : أنت لنا يا دمشق …..
كان ذلك في زمن غابر لا ينتمي لعصر الفضيحة هذا، زمنٌ كانت الصباحات لا تحمل القذائف و أخبار الموت القادمة من سائر الجهات.
لم تعد دمشق تنتظر سيارات الخضر و الفواكه القادمة من أنحاء البلاد.
دمشق الآن تنتظر ما يخبئه الفلاحون تحت الخضار و بين البضائع…
اليوم نريد العودة لنسترد آثار أقدامنا فقط ..!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.