الجمعة 11/1
مشيت في الممر الفاصل بين الجناحين، وذلك بعد الغداء(عادة نتناول الغداء في الواحدة)، ثم يجري تنظيف الممر أمام المهاجع من قبل المهجع المناوب وعند الثانية يجري التفقد، ومن الثانية إلى الثالثة تحدث قيلولة يلتزم الجميع بعدم رفع الصوت، أو إحداث ضجة.
في هذا الوقت التقيت بأبي باسم . دوماً يمشي لوحده سريع الخطا. ذاهباً. عائداً بعينيه اللامعتين. البراقتين. هو في الأربعين. هو سجين منذ عام 1979.
. قبل أعوام عندما كان في سجن المزة قرر الصمت والانزواء، وبعد أسبوع من هذه الحالة حمل أمتعته، ووقف وراء الباب المغلق.
سأله بعض النزلاء:
– أين ذاهب؟
– إلى البيـت. مللت. كفى إقامة. البارحة وردتني رسالة من زوجتي التي تعمل عاملة في (كونسـروة) اللاذقيـة. تشكـو ضيق الحال، وأنها مشتاقة، وأنها
لم تعتقد أن غيابي سيستمر كل هذه المدة، كما أكدت أن الأولاد بحاجة ماسة
إلى وجودي.
مثل أمام اللجنة الطبية النفسية. هو يقول ذلك، ويضحك .
قلت له: – ماذا قلت للجنة عندما وقفت أمامها؟
أجاب : – طلبوا دفاتري التي كنت أكتب وأرسم عليها ..
قلت لهم: – أريد سيجارة
قالوا: – حسب معلوماتنا أنت لا تدخن، فلماذا تريد سيجارة؟
أجبتهم: – أريد أن أراكم وأرى أوسمتكم ورتبكم. الدخان يساعدني على ذلك.
أبو باسم يرسم دوماً هيكل جنرال، ويرسم رتبته على كتفيه، وأوسمته مدلاة على صدره. إنه نفس الجنرال، مع اختلاف بسيط في اللفتة، والملامح . إنه يكتب على دفاتر أخرى. إن كتاباته عبارة عن هلوسات، وأبخرة لماء يغلي في إناء مليء بالحجارة الصوانية، يحكي عن الثورة، والثوار، والشعوب الثورية، وعن الدولة، والقانون، والإنسان، وحقه الحر في التواجد، والتعبير عن الرأي، وضرورة وجود الضمير الحر . إنها كتابات مشوشة. دالة. لكنها مهزوزة السياق. بعيدة عن وحدة الموضوع.
قلت له: – متى زيارتك؟
قال: – زيارتـي ليست دوريـة. تجيء عندما تتأمن الإمكانية المالية تتأخر أكثر من
ستة أشهر حيناً. ولا يأتـي أحد سوى زوجتـي أسألها عن الأولاد. تقول:
إنهم يكبرون .. صارت الكبيـرة التي تركتهـا ابنـة أربع سنوات في الصف
الثامن. أما باسم فهو في الصف السابع . أضحك، وهي تبكي. أبكي وهي تضحك، وهكذا يتصافحان البكاء والضحك ويرقصان رقصة (1)الكاريوكا.
أبو باسم كان رائداً في الجيش، ويخدم في سلاح الطيران.
السبت 12/1
مرت علينا في هذا السجن سنوات، وسنوات .. مات خلالها بريجنيف، ثم خلفه، وخلف خلفه، وصعد غورباتشوف المأخوذ بالديمقراطية الغربية .. ربما يكون صادقاً فيما أراد , ولكن التركة الاستبدادية والبيروقراطية أقوى منه، ومن أي شخص، وكانت كل المبادرات قد تجمّدت، وقُضي على حرية الإبداع.
جدد هذا الغورباتشوف في المفاهيم. قضى على التقديس. هوت هيبة الحزب الواحد المعصوم . ربما تُنعت هذه الأمور بالإيجابية، ولكنها لا تخلو من الروائح الأمريكية المغشوشة . إذ لماذا هذه النقلة مشروطة بالتخلي عن العالم الثالث عامة، والوطن العربي خاصة ؟ .. وكذلك إفساح المجال للنشاط الصهيوني، والسماح بهجرة يهود روسيا وأوكرانيا إلى أرض فلسطين ؟ .. من هذه الزاوية فإن (إعادة البناء) تبعية وعمالة إلى الصهيونية، والامبريالية قادها غورباتشوف، وشفرنادزة، ويلتسين. فإعادة البناء في الإتحاد السوفيتي، أفقد الوطن العربي أو القسم المتطلع منه إلى التحرر ركيزة الدعم.
ويبدو أن فرسان إعادة البناء مع تفتيت الجمهوريات ومع فوضى الإنتاج، والإستجابة للضغط الغربي .. لقد أهلك الإستبداد هذا البلد، والآن يزداد هلاكاً بهذا الإنفتاح الصهيوني.
هذا يجعل وطننا العربي ومعه العالم الثالث في حالة انعدام الوزن، وهذا ما ينعكس الآن في المواجهة الخليجية بين العراق، وأمريكا.
النظام العراقي معتد، ومغامر. هذا الأسلوب لا يعزز وحدة، ولا يقرر ملاقاة الأمريكان أو إسرائيل، وسيدفع الشعب العراقي بعربه وأكراده ثمناً غالياً مقابل هذا الطيش.
الأحد 13/1
عددنا في هذين الجناحين أكثر من مائتين وستين نزيلاً. كل جناح يضم عشرة مهاجع، هناك مهجع من الضباط المتهمين بإقامة تنظيم ديني يبدؤون من الملازم إلى العميد. وهناك مهجع مليء باللبنانيين منهم من حزب التوحيد الطرابلسي، ومنهم من الجيش الحكومي، وهناك عدد من الحزب الناصري. تنظيم (قليلات) وهناك من تنظيم (جنبلاط) وهناك مهجع للأكراد من جماعة (أوجلان) حزب العمل. وهناك مهجع للفلسطينيين بينهم (أبو طعان) قائد قوات عرفات في جبل لبنان. جاء من المزة بعد أن أمضى عشر سنوات في منفردة، وهناك مهجع للشيوعيين جماعة (الترك) بينهم مفيد معماري شقيق الصحفي والقاص وليد . يشغل بعض من (رابطة العمل الشيوعي) ستة مهاجع.
لا حديث للجميع سوى مسألة الخليج، واحتلال الكويت، وهل تنشب حرب، وما هي النتائج ؟ ..
رأيْ رابطة العمل يتلخص أن النظام الحاكم في بغداد بقيادة صدام حسين غير مؤهل لحرب ضد أمريكا، واسرائيل، خاصة، وقد خاض حرباً ضد إيران لصالح أمريكا، وإبادة للأكراد دفعتهم إلى حضن الأمريكان . أما حزب ” المكتب السياسي ” فيعتقد أن الحرب إذا وقعت في الصحراء السعودية، وتمّ تحويلها إلى حرب برية، ودون تلكؤ فهي حرب تدخل في نطاق حروب التحرير. وأن التحاق السياسة الروسية بالسياسة الأمريكية لن يمنع شعوب العالم الثالث من شق عصا الطاعة والتصدي للأمبريالية . أما “البعث الديمقراطي” فالقسم الأكبر منه مع الرأي الأول، والقلة مع الرأي الثاني . الضباط برمتهم مع الرأي الثاني .. وكذلك أكثر اللبنانيين. الفلسطينيون يرون أن هذه المغامرة كارثة بالنسبة إليهم، فتأييد صدام من قبل عرفات أو الفصائل الأخرى سينعكس سلباً على ملايين الفلسطينيين المقيمين في الخليج، وعدم التأييد كذلك معناه أنهم مع أمريكا ومع الصهيونية العدوتين اللدوتين للقضية الفلسطينية.
الجميع يقلقهم هاجس الديمقراطية. والشك بالأنظمة الاستبدادية، وفي مقدمتها نظام صدام . والجميع يقول أن الديمقراطية داخل أمريكا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار , ولكن الأمريكان لا يريدون أن يصدِّروا مثل هذه الديمقراطية إلى العالم الثالث عامة، والوطن العربي خاصة .. بل يدعمون، ويساعدون الدكتاتوريات مثلما دعموا دكتاتور الفلبين ماركوس سيء الصيت والسمعة، وأمثاله كدكتاتور أندنوسيا ودكتاتور تشيلي.
الاثنين 14/1
الأنفاس متلاحقة، والتوقعات متباينة .. ماذا سيحدث في الخليج ؟ .. الآذان ملتصقة بأجهزة الراديو .. نحن متوترون، ومشدودون .. وهذا أمر إيجابي يقضي على ركون واستسلام أيامنا منذ أيام فشل لقاء وزيري الخارجية الأمريكي والعراقي . واليوم تشير كل الدلائل إلى فشل مهمة الأمين العام للأمم المتحدة . العراق يدق طبول الحرب ضد أمريكا، وإسرائيل.
العاطفة العامة لجميع النزلاء تصب في خانة مواجهة أمريكا وإسرائيل، والحديث عن شرعية الأمم المتحدة أمر نافل لأنَّ انتهاكات إسرائيل تدوس يومياً على هذه الشرعية. أمريكا ضد شرعية الأمم المتحدة، وضد التقيد بالمواثيق الدولية. لأنها دوماً مع إسرائيل وضد هذه الشرعية، وتلك المواثيق .. الآن أمريكا مع الشرعية والمواثيق الدولية لإدانة العراق، وحشد التأييد لموقفها.
طبعاً يجري الحوار في المهاجع حرصاً على العراق، وليس على النظام، والابتعاد عن المجازفة.. فصدام خاض حرباً ضد إيران. خدم فيها أمريكا والسعودية وإسرائيل ولذا هناك شك في مصداقيته.
الثلاثاء 15/1
اضطرب السجن، وكأن إضراباً وشيك الحدوث . في العاشرة والنصف هز الصراخ والدبيك جنباته بعد لحظات جاء الحراس يأمروننا بدخول المهاجع فوراً . في الطوابق العليا يوجد جناح للفلسطينيين يتألف من تسعة مهاجع. هبوا يداً واحدة، وصوتاً واحداً يتظاهرون، ويكبِّرون، وينادون بسقوط النظام السوري . لقد نقلت كل الأخبار العالمية حادثة الكمندوس الإسرائيلي في تونس، واغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة: – أبو إياد، وأبو الهول، وأبو محمد.
جاء العسكر أمام جناحنا حاملين السلاح. مهددين. عندئذ ثرنا، وهجنا، وبدأنا بالصراخ ورفع القبضات، وعندما دخل العسكر لإغلاق المهاجع، حدثت المشادات، وجاء الرائد محي الدين مساعد مدير السجن. طلب شاويش الجناح، وكان هذا الشاويش رائداً في الجيش خدم في سلاح الصورايخ، وهو من حلب . سأل الشاويش مساعد مدير السجن:
لماذا حرسك يدخل مسلحاً إلى المهاجع ؟ .. السلاح والذخيرة الحية مدخرة لفلسطين والجولان وليست للسجناء العزل.ز
وفي هذه اللحظة جاء مدير السجن، وسمع الحوار، ورأى الهياج، وكان الاضطراب يعم الطوابق، كان مدير السجن أصفر اللون . كنا نسمع الهتافات والزغاريد قادمة من الأعلى . في الممر تراجع العساكر، وتقدمنا. ثم تقدموا، وتراجعنا .. ودخل مدير السجن ومساعده، وباللين، والرجاء تم إغلاق المهاجع، وبدأ الدق على الصفيح وتحول السجن العتيد الجاثم على تلة إلى قلعة احتجاج.
يا أالله .. كم هذا النظام متورط، وعفن، ومضاد.
المراجع
↑1 | الكاريوكا |
---|