الصفحة الرئيسية / زوايا / أطول من ستاتوس - هوزان شيخي / قطار، الطابق الثاني من القطار
الغرفة الحمراء لهنري ماتيس
هنري ماتيس

قطار، الطابق الثاني من القطار

هوزان شيخي

 

في الطريق إلى العاصمة، في القِطار، في الطابق الثاني من القِطار تحديداً..

إنه يوم الأحد، المُسافرونَ كُثُر، قبل يومين كان عيد منتصف الصيف هُنا، اليوم الذي يكون فيه النهار أطول ما يُمكن، بالنسبة لمدينتي الصغيرة، الظُلمة كانت لساعةٍ واحدةٍ فقط، قضيتُ رُبعها في الحمام، لم أرَّ الظلام ذلك اليوم، بالكاد أشعلتُ الضوء، أطفأته بعد دقائق، بِلادٌ مُنيرة، لا حاجة فيها لصرف الكهرباء..
في القِطار إذاً، تجلسُ في مواجهتي تماماً، إمرأةٌ شقراء أربعينية، ليست مهمومة، هي فقط تُفكر في طريقة لحلِّ إشكالاتٍ يومية، تعرفين هذا النوع من النساء!! إمرأةٌ عادية، رُبما عندها ولدان، أو إنها لا تُنجبُ وهذه المسحةُ من الحُزنِ على وجهها قد تكون بسبب رغبتها في إمتلاك طفلٍ لا كلبٍ أليف..
هل تعرفين أي نوعٍ من النساء أقصد؟؟ إذا رأيتِها ستعرفينها، تُشبهُ الكثيرات ممن نعرِفُهُنَّ، إمرأةٌ عادية، مشغولة باليوميات، تُجيدُ حل الكلمات المُتقاطعة أو عمل جوارب من الصوف، تنزلُ لشراء الخُضروات كُل صباح، ولا يلتفت إليها أحد..
في مواجهتي تماماً تجلسُ..

المُذيعةُ في القِطار تحكي كثيراً، هذا الصوتُ الذي يقطعُ بث الراديو ليُخبرُ الركاب أين صاروا، ولأني بالكاد أفهم اللُغة هُنا، تبدو الجُمل أطول من اللازم، أفهمُ أسماء المُدنِ فقط، ولا أهتمُ بالباقي..

إلى العاصمة، سأشاركُ في عملٍ إنساني لأسبوع، حقيقةً أعرف معلوماتٍ قليلة عن الموضوع، شبابٌ من أوربا ودولٍ أخرى مُجتعمون هُنا، يُناقشون أموراً مُهمة، ويرفعون تقاريراً وتوصيات إلى لِجانٍ أخرى لن تُنفِذ شيئاً.. سنتكلم لأسبوعٍ، أنا مُشاركٌ في اللجنة المسؤولة عن الحريات والحقوق العامة، أمورُ السفر والهجرةِ والنزوح بشكل خاصٍ.. كم شخصاً من السوريين الثمانية آلاف الذين يُغادرون سوريا كُلَّ يوم يعيشون في ظروف جيدة؟؟ مليون ونصف عدد اللاجئين السوريين الآن في العالم، وفي نهاية هذا العام سيقترب العدد من ثلاثة ملايين.. سنحكي أشياء كهذه، سنحكيها كأرقام، كمواضيعٍ يجب أن يهتم بها أحد لتحسين شكل العالم، وليس لأن هؤلاء السوريين أخوتي..
سأُجرب، سأجلسُ مع هؤلاء الأشخاص الذي يعتبرون الحديث عن الهاربين من الحرب مُتعة، مع هؤلاء الذين يذهبون إلى المُخيمات ليتصوروا مع النازحين، مع هؤلاء الذين يضعون “لايك” حين يعثرون على حذاء طفل مات أبواه في الحرب.. ولا أدري..

المرأةُ الأربعينية تُنصتُ السمع إلى كُل ما تقولهُ مُذيعة القطار، تخافُ أن يفوتها شيء، كما قُلتُ لكِ، هي ليست قلقة، فقط تُحاولُ أن تُبقي كُلَّ شيء تحت السيطرة.. وأعرفها، أشعرُ بأني أعرفُ هذه السيدة الشقراء جيداً..

ماذا أيضاً، البلادُ هذه كُلُّها شجر، شجرٌ لدرجةِ أن سِنجاباً يستطيعُ ان يعبرها من أقصاها إلى أقصاها بالانتقال قفزاً من غُصنٍ إلى غُصن.. في بلادٍ كهذه، في قِطار كهذا، يُمكن العثور على الشِعر “العِناقُ وقوفاً في قِطار يعبرُ صفين من الأشجار..” من قال هذا؟؟ تَذكُرين..؟؟

بعد قليلٍ سأصل، العاصمة، سُلالاتُ البشر في العواصم مُختلفةٌ عن باقي السُكان، أسرارُ العاصمة -كُلُّ عاصمة- وحكاياتُها.. سأصلُ بعد قليل..

أُغلقُ الصفحة التي أكتبُ فيها على حاسوبي، وأنظرُ إلى الشقراء الأربعينية العادية، أنظرُ إلى خلفية الحاسوب إيضاً، نعم، كُنتُ أعرف أني أعرفها من قبل، السيدةُ نفسُها، في مواجهتي في القِطار، وفي لوحة الغُرفة الحمراء لهنري ماتيس، خلفية سطح المكتب، هي نفسهُا..

 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.