الصفحة الرئيسية / نصوص / المكتبة / الولعة (رواية للفتيان وللنفوس الفتية) – الوطْأة

الولعة (رواية للفتيان وللنفوس الفتية) – الوطْأة

عاصم الباشا

 

الوطْأة *

هل يمكن استكثار واستهجان السطو والقتل، إن لزم الأمر، من نفس رضعت من الضيم ما قد يجعل الجبال ترتعد؟
جبال تشهد وتتحوّل دون أن يدرك أحد ذلك. تلقى كل يوم جديد وكأنها كما كانت بالأمس، لكنها ليست كذلك. وتغيّبه على غير ما استقبلت أشعّته. لكننا لا نعي حركة الأشياء سوى في أجسادنا الآيلة إلى التهلكة.

ربما كانت تلك أسعد أيام “الولعة”. يكتفي بالغزو مرة أو مرتين في الأسبوع، يكمن على الطريق الرئيس الرابط بين جنوب البلاد وشمالها.
عنّفه مرة عبد الواحد، وكان دعاه بواسطة شقيقه عبد القهّار إلى بيته في ليلة من شهر أيار، لأنه سطا على قافلة الحجيج العائدين من بيت الله الحرام.
– إنما هم تجّار سفلة! يستغلّون الحج للمتاجرة بالأشياء وبالإله وليغشّوا الناس بحمّام الحجّ!
قال له “الولعة”.
– بعضهم –أجابه عبد الواحد – وليس جميعهم!.. هذا ما ينقصنا. أن يغيب الإيمان الحقّ عن قلوب الناس!
تململ عبد القهّار في مجلسه ليعلّق:
– لكنهم كذلك يا أخي.. لا تثق بكل من يقول: توكّلت على اللّه.
– أنا أقولها!!
– لكنك ممّن بدأوا بالانقراض. فأنت تعمل.. والآخرون يتواكلون.
أُعجب الولعة بما قاله عبد القهّار. لم يفكّر يومًا بالخلط الحاصل بين التوكّل والتواكل.
– أحب سرقة المتواكلين. وإن أخطأت يومًا، فالله غفور رحيم.
كذا انتهت تلك الزيارة التي التهم فيها الولعة صحنًا هائلاً من “المجدّرة” في صحن نحاسي مبيّض بالقصدير، مع بعض اللبن في قدر من الفخّار، ومحمّد بن علاء واسطي العال يرمقه بسنواته الأربع كوحش يتحدّث عنه الجميع وهو في هيأة إنسان.
لمسه تلك الليلة وهو يغادر، قرصه في خدّه، وكانت اللمسة الأولة والأخيرة. لم ينسها محمد علاء الدين قطّ، حتى في اليوم الذي لفظ فيه أنفاسه الأخيرة، جاءته اللمحة، بين زحام أخريات لا عدّ لها، بارقة.. قبل أن يلفظ بالإسبانية: انتهى.
لعل الذكرى عاودته لأنه تمنّى طوال حياته لو كان على قدر من تمرّد الولعة ولو يسير. حاول ذلك، لكنه عجز وانعزل.
كانت أسعد أيام الولعة لأنه اكتشف فيها المرأة، واختبر الحبّ.
التقاها على درب من دروب السهل البسيط، عائدة مع أمها على حمارين بعد إيصالهما لقيمات للأهل العاملين في أرض بعل غير بعيدة.
استدلّت على مكمنه فجاءته يومًا، خفية، تحمل له صحن “فريكة” (قمح أخضر)، ولمس لأول مرّة جسد امرأة كانت تتمنّى ذلك.
صارت تزوره كلما تسنّى لها.

(هنا يأتي مقطع حول الحبّ في عتمة الكهف غير مناسب للفتيان الأحداث ويسيء للكهول والشيوخ ذوي النفوس الفتية، لأنه يذكّرهم بما كان ممكنًا… ثمّ أنه نص ممنوع من المحيط إلى الخليج. ربما لأنه يصبو إلى حقيقة الأشياء).

وحصل أن حملت منه. وهنا تنازعت الولعة مشاغل متضاربة، فمن جهة يريدها بجانبه دومًا ومن أخرى ما قالته بكلماتها البسيطة: “وتستغني عن نمط حياتك؟”.
بدأ يميل إلى الفكرة الأخيرة، وراح يفكّر بطريقة تسمح له بتحويل دفّة حياته، لولا أن..
لولا أن شقيقًا لها تبعها في إحدى زياراتها واكتشف الأمر فانتظر عودتها وقتلها في بيتها، ثم حكى لأهله أنه غسل “شرف” العائلة.
اضطرّ “الولعة” لزيارة أهلها. قتلهم جميعًا، بما فيهم الدواب والدجاج وكل ما خطر له التحرّك في البيت.
قتل يومها تسعة أنفس، بينهم أطفال، وثلاثة عشر من رؤوس الماشية والطير.

ألمه الثالث والأخير: مقتل الأب وتيه الأم وموت الحبيبة.
أدرك أن المنية تدنو منه، فما حدث كان بداية النهاية.. مع أفول حبّه الوحيد.
قيل أنه تسلّل إلى مقبرة الضيعة ليلاً يوم دفنها وأخرج الجثة الشابة ليدفنها في مكان ما من الكهف. كان يريدها قربه، حتى ميتة.
الحب محرّك الكون، نتاج نضج الطبيعة، طبيعتنا وطبيعتهن.
تنتفي الحياة بدونه.

ترأس عبد الواحد وفدًا توجّه إلى “بخعة” ليخفّف من هيجان أقارب القتلى ما أن علم بالمجزرة. الولعة لا يحتمل أن يخونه من يدافع عن شرفهم الحقيقي، وليس ذاك الذي رضعوه.. فما هو سوى فرية. طلب عبد الواحد هدنة لغاية الصيف. كان الوقت شتاءً. ووعد بجمع ديات ستدفع لهم أيام البيادر القادمة.
تزايد ضغط عسكر العثمنلي على أهل ضيع المنطقة وقد تأكّد لهم تواجد “الولعة” بينهم، وراح الضيم يطبق على الصدور فيكاد يقصم الظهور.
لا أسهل من تسلّط طاغ على كائنات مذعورة ومتخاذلة.
لا تُطعم أحدًا، علّمه ماهية الشرف.. وستكون الدنيا بخير.
تزايدت المخاوف من خيانة البعض، وحدث أن سكر ليلة أحد أبناء الضيعة في سهرة مع رفاق له مسيحيين كانوا معروفين بجودة النبيذ الذي يخمّرونه في خواب عظيمة، وصرّح بصوت عال أنه اكتفى وأنه ذاهب ليدلّ العثمنلي على مخبأ الولعة، لينقذ الضيعة من شرّه.
كان سيء السكر والحظ، فعبد القهّار كان يقارع كؤوس النبيذ في شرفة بيت مجاور وسمعه بوضوح، فتبعه، ما أن خرج ذاك مترنّحًا.
كلاهما كان يترنّح، لكن عبد القهّار كان يعتمد على عزيمة أمتن. انقضّ عليه في الزقاق الذي يحاذي الكنيسة من الخلف. كان الوقت قبيل السحر.
وجدوا الجثة عند الفجر، وتناقلوا أنه مات مختنقًا.
قرّر أهل الضيعة، دون التصريح بذلك جهارًا، منح وجوه الضيعة حق إقرار ما يفعلونه.

 

 

————–
تنويه: * الوطْأة: هي الفصل الثالث من رواية الولعة التي ننشر فصولها (الموطئ – التَّوْطِئَةُالوطْأة – الوطاءة) على التوالي، أسبوعياً على دحنون
————-
الصورة: بتصرّف، عن لقطة بعدسة نوري الجرّاح

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.