الصفحة الرئيسية / نصوص / رأي / في مديح الموت
عمل للفنان التشكيلي عمران يونس
عمران يونس، Omran Younis

في مديح الموت

حازم سليمان

 

خائف أنا
ثمة غريب ينهش خاصرتي في الليل..
يؤلمني فأنهض صارخاً وفي رأسي ألف احتمال لموتي القريب.
تكات الساعة أحسبها لوهلة قنبلة موقوتة أسفل السرير، وضعها رجل كان مختبئاً بين الثياب، أو دخل المنزل في صندوق المياه المعدنية وفي أحشاء دمية كان يلعب بها ولدي طوال النهار، ولدي النائم الذي انظر إليه وأتخيل وجهه بعد سنوات محفوف الشارب ولحية تغطي صدره، أراه يجلدني، يجرني في ساحة رملية، يتبرأ منّ كفري المزمن، قبل أن يضع رجله فوق رقبتي، ويودع في رأسي رصاصة من بندقية كانت ترشق الماء يوم اشتريتها له منذ زمن بعيد.

القتلة يتجوّلون في البيت، أسمع وقع أقدامهم، شحذ سكاكينهم، رصاصهم الذي يُحشى في البنادق، أضع رأسي أسفل الوسادة، القتلة ينهشون خاصرتي، فأنهض مرتجفاً… لا تقتلوني أيها الغرباء، فأنا لست أكثر من كائن متعب مهزوم سيموت بمفرده من الخيبة، هكذا وفي لحظة مباغتة سيسقط على الطريق، مدخل البناية، وهو يومئ للنادل بالقهوة، يتثاءب، أو يبتلع لقمته المرّة دائماً.القتلة في كل مكان، أسفل الطاولات، في صناديق البريد، بين الصحون، في أسلاك الهاتف، والصناديق الخلفية لموصلي الوجبات السريعة، علب السجائر، بين الأقلام، في علب الكولا، بين الأسنان، في البلعوم، فتحات التهوية، بين عقارب الساعة، خلف الصور المعلقة، الواقيات الذكرية، والسوائل الجنسية.

القتلة يتسللون من التلفاز، يتركون على الطاولة رؤوساً مقطوعة، ويطلبون مني رميها في حاوية القمامة، يشربون قهوتي، يدخلون أذني مع الأغنيات، ينحشرون في ثيابي ويخرجون معي، ليلقوا التحية على الجيران والأصدقاء، ويتركون علامات سرية قرب المدارس، والمطاعم، مواقف الباصات، ويهمسون، تذكر، أنت الشاهد الوحيد على المجزرة.القتلة ينهشون خاصرتي في الليل الذي لا ينتهي، وأنا أتمسك بخشب السرير، علّه ينقذني من هؤلاء الذين رائحتهم في أنفاسي، وطعمهم في فمي، وعلى الجدران يرسمون وجوه الضحايا الذين سيخطفهم الموت كحب من النظرة الأولى….أحياناً أهِمُّ بالصراخ…أيها الناس انبطحوا ضموا أولادكم الى صدوركم، القتلة يفعلونها الآن، بعد أن تركوا للكاميرات صوراً تؤكد مرورهم من هنا، قبل صعودهم الى السماء شهداء ملوثين بالخديعة والجنون، القتلة يريدوننا موتى لأننا لا نستحق الحياة، يُعيدوننا الى خالقنا ليصلح أخطاءه فينا، وهناك في الأعلى طوابير الموتى، يوضعون في ملفات، وطوابع وبصمات وصور حاسرة، القتلة هنا وهناك أيضا.

القتلة ينهشون قلبي، يتبعونني بعدستهم المقربة، على رأسي المهتز من القلق إشارة الزائد، يريدونها طلقة مفجرة للدم والخلايا، نصفها على الطاولة والباقي على الأرض وعلى ثياب الناس ووجوههم الصفراء، القتلة يمنعوني من التفكير بموت لائق، على كرسي هزاز، بتابوت، بحفرة عميقة تعجز عنها الكلاب الضالة.القتلة يُغرقون سريري بالدم، ينهشون خاصرتي، يتركون فيها ثقباً أرتُقهُ كل صباح، وفي السماء طيور سوداء، تنتظر الموتى أن يُترَكوا في عراء السماء الجافة، كل يوم أقفل الباب ألف مرة، وأنظر من النافذة، توقظني خطوات العائدين آخر الليل، وحين تسرقني غفوة قصيرة ينهشون خاصرتي فأصمت، صدري وقلبي فأصمت، يهمسون في أذني، ويتركون لي المزيد من الرؤوس المقطوعة أرميها كل يوم في حاوية القمامة، وأسمعها تضحك وتقول خيط الدم يتبعك أين اتجهت.

خائف أنا
والخوف لزج، يعلق في الأمكنة، يُريبُها، يقتل معناها، يروح ويجيء بتلك الرائحة الحمضية، رائحة موت قديم، وكائنات ينبت بين أفخاذها عفن الرطوبة والأقبية المظلمة.
الخوف متفسخ، يعبر الممرات، يجتاز الأسوار، والسواتر الترابية، ينخر العظم كبرد كلعنة مزروعة في الدم والجينات، تعويذتها ضلّت طريقها في السماء.
الخوف طعمٌ مُر فاسد، كمن يأكل لحم جيفة، كمن يأكل نفسه أمام التلفاز، يتسلى بقضم أصابعه، ويلعق عظم معصمه الناتئ.
الخوف ظلٌ غريب ليس لك، كلب مسعور تلمح عينيه في عتمة الأزقة، كلب يزبد فمه بسوائل بيضاء قذرة…..الخوف امرأة تغويك، تستنفرك ولا تلمس منها غير الخيبة.
الخوف إلهٌ عجوز، يتسلى
القتلةُ خوفٌ يكبر في أحشائي كجنين مشوّه، أمشي وأمشي، ثم أركض أطلق أقدامي للريح، خيط الدم يتبعني، نحو راية مهترئة فوق هذا العالم المتداعي.

 

 

الصورة: تشكيل لعمران يونس

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.