لا اعرف ماذا اصابني اليوم…؟ عشت لاروي لكم طفولتي بمجزرة حماه 1982
بعد وصولنا إلى الأطراف الشمالية لمدينة حماه وكنا حفاة وملابسنا متسخة ورائحة البول تطغى على المشهد، استقبلنا اهالي الريف وركبنا سيارة شحن كبيرة وتوجهنا الى القرى.. وتركنا هناك وراءنا في مدينتنا صوراً و قصصاً مؤلمة. . كان بحينا بالبارودية إحدى جاراتنا لديها شابان أحدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة والآخر سليم،. وعند هروبنا الكبير والحي يقذف من مدفعية الجيش السوري (لا اعرف اذا كانت “سرايا الدفاع” أم “الوحدات الخاصة”، ام الإثنان معا) أصيب الشاب ذو الاحتياجات الخاصة بحالة هلع ورهاب وفزع، لم يستطع معها رجال الحي إخراجه من المنزل، حتى تستطيع عائلته الرحيل معنا.
وقفت أمه أمام بيتها وطلبت من الجميع وهي تلوح بيدها الاسراع بالرحيل، وهي تقول “لنا الله، لنا الله” وكررتها كثيراً، حاول احد رجال الحي اقناعها وطلب منها ترك ابنها والذهاب معنا هي وابنها السليم فرفضت ذلك، وقالت “أسرعوا ارجوكم، فهذا قطعة من قلبي ولن أتركه”.
بقيت الأم مع ولديها وبعض الشباب الشجعان من اللجان الشعبية.. الأم التي تحولت إلى شاهد في ذاكرتنا أخبرتنا لاحقاً إنه وبعد انتهاء المجزرة دخل عناصر الجيش بكل عتادهم الى حينا وفتشوا جميع المنازل وبدأت قوات الجيش بجني غنائم الحرب. دخلوا الى بيتنا الجميل وكل بيوت الحي وسرقوا كل شي يهمهم. قالت المرأة إن سيارات الجيش بدأت تحمل الاغراض وبالذات التحف الغالية الثمن، وجميعنا نعرف ان رفعت الأسد يهتم بالتحف الفنية ومارس هوايته بأبشع الطرق. وتروي السيدة بأنها اخبرت الجيش عن سبب بقائها مع ابنها المريض وسألها الضابط عن مكانه وكان الشاب المريض مختبئاً ومن الصعب التفاهم معه،. اوعز الضابط الى جنوده بالبحث عنه حتى وجدوه وسحلوه أمام امه هو واخاه المعافى، وقالوا لها وهم يضحكون اختاري احد ابنائك فهو لك وسوف نقتل الآخر… أبت الام الاختيار بين ابنائها وهي تبكي وتقبل قدمي الضابط وتترجاه، وتقول “اقتلوني انا ودعوا اولادي”.
“شهامة” الضابط كانت سريعة، حيث سحب مسدسه وأطلق النار على ابنها المعافى، فوقع على الارض شهيداً من اجل اخيه من ذي الاحتياجات الخاصة. وقفت الأم تبكي فوق ابنها فسحلوها مع ابنها المريض ووضعوها بسيارة عسكرية وأخبروها انهم سيفجرون الحي بكامله، وهذا ما حصل. عندما عاد بعض الرجال بعد انتهاء المجزرة لم يجدوا حي البارودية كان قد دمر تماماً، عن بكرة أبيه.
دُمِّر الحي تماماً هذا، ما قاله لنا خالي لاحقاً بعد أن تسلل إلى المنطقة بحثاً عن بيتنا. ذهب ليبحث عن صندوق الحديد الخاص بأبي. وبعد ساعات، وبمساعدة الجرافات، وجد قطعة حديد صغيرة. لقد سرقوه بعد تفجيره وهذه صورة عن إصرارهم على سرقة كل شيء،. عاد خالي لأمي بسجادة كان الجنود أطلقوا عليها الرصاص وثقبت، وهذه السجادة مازالت موجودة عند أمي الى اليوم، ذكرى لنا ولها من بيتنا الجميل الذي يحمل في ضميرنا صورة والدي.
القصص التي رويت لنا من الناجين عند هروبنا الكبير من مجزرة حماة كثيرة. منها قصة عائلة مؤلفة من أب طاعن بالسن ومريض وله ابن شاب صغير كان عمره يومها ١٥ سنة، وهو الذكر الوحيد لهذه العائلة بعد ثلاث بنات. روت الام بعد المجزرة أنه بعد مغادرة اهل الحي امطرت مدفعية جيش الأسد الحي بالقذائف بشكل مكثف حتى تأكد الجيش من عدم وجود احياء في البارودية. دخل الجيش ووجد هذه العائلة مع الأب المريض. الضابط سأل الأب عن سبب عدم هروبهم مع من رحلوا من المدينة، وقال له هل تريد ان تقاوم؟ فأجابه الأب أنا لا علاقة لي بالمشاكل ومريض ولا أستطيع حتى المشي، وهذه عائلتي بقيت لترعاني.
في ذلك المنزل ضحك العسكر من كلام الأب العاجز، فيما الضابط طلب من الفتيات أن يخلعن حجابهن ليتأكد انهن نساء ولسن رجالاً. رفضت الفتيات القيام بذلك، وبدأن بترجي الضابط بعدم اجبارهن على ذلك، ولكن الضابط اصر على ذلك كنوع من الاذلال للعائلة. بعدها بدأ الضابط بمفاوضة الأب بكل سفالة أن يتركه حياً شرط أن يوافق على اغتصاب إحدى بناته. بكى الأب وثار في وجه الوحشية وتبعه ابنه الشاب فقتلوهم وامعنو ا بتشويه جثتيهما أمام الجميع، وقاموا باغتصاب واحدة من الفتيات وبعدها اخرجوهم بسيارة من الحي.. والفتيات الثلاث تزوجن وعندهن اليوم اولاد، وهن لا يتكلمن عن ذلك اليوم الأسود.
في حماه كان الألم كبيراً لنا جميعاً من كل الفئات والانتماءات، كل الألم تقاسمه أهل المدينة سواسية من دون تفرقة، عشنا مرحلة سوداء من دون أن نعرف أن هذا الأمر سيظل كالسكين يقطع في ذاكرتنا، يخفي دموعنا ويمحوها أحياناً.
نعود الى الصور التي رأيتها عند هروبنا من القبو الى جامع عمر بن الخطاب. كنا نسير في الطرق وكانت الجثث ملقاة في كل مكان، واخص صورة انطبعت بذاكرتي لم أعد أعرف ان كانت رويت لي في طفولتي أم رأيتها بعيني، ولكن ما أعرفه أنه لا يمكن محوها أبداً، في الساحة المقابلة للجامع رجل ربطت احدى قدميه بسيارة وكأنه ربط بالمقابل بشيء ثابت وتم شقه الى نصفين حتى الصدر.
وصورة اخرى لإمرأة قطعت يداها من المعصم، وانا كطفل لم استطع تفسير السبب. ولكن الجميع فسّر المشهد بأن العسكر أرادوا سرقة أساورها الذهبية التي علقت بيديها.
هذا جزء مما رأيته في طفولتي.
ونعود الى الهجرة الى الريف، ركبنا سيارة شحن. أمي بجانب السائق، ومعها باقي اخوتي وانا وأحد اخوتي في الخلف. كانت هناك هدية من السماء حيث وجدنا علبة “تونا” ونحن نتضور جوع لا يحتمل، بدأنا ضرب العلبة محاولين فتحها بكل الطرق، ولم نستطع ذلك حتى وصولنا الى القرية. خرج الناس من بيوتهم جميعها وجلبوا لنا الطعام لنأكل، وبقينا انا واخي كطفلين مصرين على فتح هدية السماء. أخبركم أن هذه الحادثة تطفو بذاكرتي كلما سمعت بكلمة “تونا” أو رأيت او شممت رائحتها.