صبيحة العيد الكبير..
الأولاد ذهبوا إلى السينما بدوني، رغم أني استيقظتُ قبل الكل لأزور المقبرة مع أمي بعد صلاة الفجر.. الأولاد ذهبوا بدوني، كنتُ دائماً أقول لنفسي أن مسحوق الغسيل “بشرى” الذي نستخدمه في البيت هو السبب أو ربما لأن الشوكولا التي نضعها أمام الضيوف في العيد رخيصة.
الأطفال الذين يذهبون إلى السينما لهم رائحة “المسيحية” وفي بيوتهم شوكولا مثل تلك التي يعرضونها في التلفزيون.. ولا أدري!
قال لي أحد الأصدقاء مرة: أن جواربك كل يوم تسمم العالم وهي تهدد البيئة أكثر من محركات الديزل، سقط العالم، الحكومات اعتقلت البيئة، وتوقفت محركات الديزل، وما زالت جواربي صامدة كالعلم في مدخل المدينة..
فَرحاً بثياب العيد الجديدة، حزيناً خلف السينما، فوق الحاوية تماماً مثل قطط مظفر النواب، أُلملم بكرات الأفلام الملقاة في الحاوية، الأغنياء يرمون كل ما استمتعوا به في الزبالة، اضع البكرات في وجه أشعة الشمس، وأتابع الأفلام التي لن يشاهدوها..
المشهد الأول:
محرمةٌ بيضاء مُتعرقة على قبة قميص الأستاذ الذي يتمشى بين صفوف الطلاب ملوحاً بالخيزرانة، اسم المدرسة يظهر شاحباً: مدرسة “البعث” للتعليم الأساسي.
كل شيء في الصف عادي، عادي، عادي.. على اللوح حكمة اليوم: الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر. الطلاب بصمتٍ يحاولون حفر اسمائهم على التوابيت التي وضعتْ مكان المقاعد..
المشهد الثاني:
رجلٌ بعين واحدة، على العين الأخرى غطاء كالذي يضعه القراصنة، الرجل يشرب وكأنه يكره ما يشرب.. فجأةً يُخرج مفتاحاً من جيبه، يُقبل المفتاح، وبحركة خاطفة يُخرج عينه السليمة من مكانها.. صرخة الرجل تملأ المشهد: العينُ بالعين.. العينُ بالعين..
المشهد الثالث:
شيخٌ بلحية كثة يضع مفتاحاً صغيراً في رقبة المقاتل وكوندوماً في جيبه، ثم يهمس في أذنه: مكانك مؤمن في الجنة..
المشهد الرابع:
إبريق الشاي على الصوبيا المتوهجة، أربع عجائز يثرثرون عن عسل النحل الذي يتغذى على زهور القطن، وعجوز يجلس وحيداً في آخر الدار. يجلس متكوراً مثل سجين في زنزانة ويلف جسده بالحورانية فجأة يرفع رأسه ويتكلم بصوت مرتفع عن أم ابراهيم حواشة القطن: بوسة أم ابراهيم تسوى كل بنات المدارس..
المشهد الخامس:
استيقظ صباحاً، ليجد سفرة الإفطار المتسخة في انتظاره كالعادة، أمه التي تستقيظ باكراً تأكل القليل من حبات الزيتون وتترك له الشاي بارداً وثلاث حبات زيتون و صحون متسخة..
شرب كاسة شاي، وأكل حبات الزيتون بشكل انتقامي وبعد الانتهاء من مضغ الحبات كان يرمي لب الزيتون في أرجاء المطبخ ويقول نكاية بأمه: العين بالعين والبادي أظلم!!!!
ارتدى ثياب العيد وبعد أن عجز على ايجاد مكان يذهب إليه، خرج إلى الشارع وهو يدندن “يوم الماشوفك ماريد عيوني..”. قبل أن يقطع الشارع، كان القناص بالمرصاد، إصابة مباشرة في عينه..
المشهد السادس:
حوار تلفزيوني ساخن، ركبة المذيعة الشقراء تلمع أكثر من شعار المحطة، النقاش محتدم، والضيوف يدحشون كلمة “الشعب” في كل جملة.
فجأة تظهر في وسط الاستديو عجوزٌ بقدمين حافيتين، تصرخ: أبن قحبة من اخترع الكرامة، أبن شرموطة من يصيح الموت ولا المذلة، ابن ستين كلب من يقول لا تراجع..
يتوقف البث بطريقة فجّة، ثم تظهر الشقراء مبتسمة: نعتذر عن الخلل الفني..
المشهد السابع:
طائرة ميغ، استهدفت الحديقة العامة، قصفتها بالبراميل، لا ضحايا سوى حنفية الماء التي تُنقط منذ زمن، الفتاة الوحيدة التي غادرت الحديقة قبل القصف بلحظات كانت قد تركتْ وردة على المقعد الخشبي للشاب الذي لم يأت!!
المشهد الثامن:
رجلٌ بثياب فخمة يتوجه إلى محل النجار، ثم يبدأ العمال مسرعين في تحميل التوابيت في الشاحنات الواقفة، يتأمل الرجل الأنيق أرقام التوابيت، 22 مليون تابوت، على بلور كل شاحنة الورقة نفسها: مساعدات إنسانية..
المشهد التاسع:
السرفيس يسير بسرعة خيالية، والأغنيةُ تصرع.. يدور الحوار بين رجل ملتحٍ والسائق:
– طفي الغنية، مو سامع صوت الآذان؟؟
– الآذان خلص من ساعة، وأنا كنت عم أصلي بالجامع، هاد الصوت من عربية بياع السحلب..
المشهد العاشر:
طائرة الميغ، ترمي وحيد القرن إلى الأرض، يقع على قدميه، وفوراً يبدأ بلعق الأرض التي تُشبه كتلة ملح صلبة ومستديرة.. وحيد القرن يلعقُ المِلح بلسانه الخشن ، والأرض لا تذوب..
هكذا كانت تتساقط بكرات الفيلم والمشاهد إلى الحاوية، الفيلم لم ينتهي لكني مللت..
في العيد القادم سأذهب إلى نفس المزبلة، لعلهم يعرضون فيلم سيكس أجمل من كل هذه التراجيديا..
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.