… يدخلُ الغرفة المربعة جداً ولا يلقي التحية على أحد, يجلسُ كالصنم على حافةِ الفراش ويبدأ بالتفكير, يفكر بكل شيئ, بالأرض التي حُرقت وبالدجاجات التي لم تعد تَبيض بالديك الذي خافَ فأصبحَ عقيماً وبساحة البيت التي احتلتها أحد دبابات النظام, يمرُ على مخلّفات الطلقات الفارغة يعدُّها واحدةً واحدةَ ليتنهي عند بُقعِ الدماء التي إعتادَ لونها و طعمها أيضاً.
في غمرةِ تلكَ الإرتباكات يحاولُ أن يقنعَ نفسه أنه حيٌ لأنَ الله يمتحنهُ لا لشيئٍ آخر ثم يذهب به التفكير إلى عائلته التي لم يسمع أخباراً عنها منذ آخر مجزرة, لا صفحة على”الإنترنت” ذكرت أسمائهم ولا حتى مقطعُ فيديو مُسرب أفادَ بمقتلهم. يفتح البراد الذي يشبه قلبه ليجده ممتلأً بالذكريات المجمدة, فيفقد شهيته للأكل ويعود لندمهِ المتكرر, ربما على نَفَسِهِ الذي لا يزال يصعد ويهبط بارتياب وكأنه الزومبي.
يسأل نفسه هل أنا زومبي؟ هل أنا على قيد الحياة فقط لتنهش جلدي الذكريات؟ لماذا اختارني الله في هذه اللحظة ألأكونَ مجردَ نادبٍ على طرف الذاكرة؟
بحركة اعتيادية يحرك يدهُ ليبعدَ ذبابَ الأفكار, تلويحة اثنتين وينسى, ينسى الغرفةَ المربعة جداً والدبّابة وساحةُ البيت, ينسى الدم والقتلى الذين يعبقون بالشوارع, ينسى عائلته وموقع اليوتيوب, ينسى صفحات الانترنت وأسماء المفقودين ينسى الله والملائكة والجنة وحوريات النعيم والنار وعذاباتها التي لا تنتهي. فيتكوم على نفسه ويدندن بينه وبين الظلمة أغانٍ قديمة أكل الزمان عليها ونام, يغني للوحدة, للتوحد, يغني لكل الأشياء التي فقدها ونسي أن ينساها, يغني لأفكاره الحمقاء بالحياة ولأفكار الآخرين بالموت.
شيئاً فشيئاً يغطُ في نومٍ سطحي, سطحي جداً وخفيف لدرجة أنه يبقى مستيقظاً ونائماً بنفس الوقت, فعينه اليمنى مفتوحة والأخرى مغلقة بفعل شظية طائشة, تركت كل الجدران المتأهبة واختارت عينه.
من جديد تستعرُ الهواجس في رأسه ويبدأ بالكلام بسرعة يهلوس بأشياء غريبة \بحر\ بحر \سمك أزرق \سمك أبيض \قارب مجذاف واحد\ فيضحك واحدٌ لأنني وحيد\ صديقه الذي نسيَ بنطالهُ عندهُ قبل أن يسافر- في المطار اعتُقلَ وماتَ تحت التعذيب – يقهقه, ويصرخ بجميع الغائبين “البنطال أصبحَ لي وكل الذكريات, والحياة بموتها, وهذه الغرفة المربعة, وكل المشردين, وقطّاعُ الطرق, والماجنين والسارحين وكل الجنود, وطلقاتهم ورغباتهم بافتعال الموت “يهلوس كثيرا وبأشياء ليست حقيقيةَ حتى, يهلوس بإبنه الذي لم يأتِ بَعد فهو لم يتزوج ولكنه قلق على مصيره فهو إبنه الوحيد, فيبدأ بالصراخ على زوجته وابنه الذي لا يحضر له منفضة التبغ. يتكوم مرة أخرى, يدخل رأسه بين قدميه ويصيح, يصيحُ بقوة وكأن ما بين قدميه بئرعميق.
بعدَ أن أرهقته تلكَ التقلبات يقرر أن ينام بشكل طبيعي, يضع رأسهُ على المخدة ويقرأ المعوذات لأول مرة وقبل أن يأخذه النوم, يسمع ضجيجا كبيراً بالخارج, فالدبابة في شهرها الثلاثين, تنجب قذائف صغيرة, صغيرة وقبيحة جداً .
يبتسم ويعدِّل جلسته, يرفعُ نظرهُ لسقفِ الغرفة ثم يشكر الله على نعمة الموت.
الصورة: عمران يونس
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.