وأنتَ طِفلٌ في الزمان الخطأ، جُبّتَ البِلاد وما وجدت مأمناً. مكانُك -مكانُ اللحن واللونِ وشدِّ الحِبال- صار مُعسكراً قبل وصولك وعُمرك بيعَ من أول يوم.
باكِراً دفعوك، سلسلةٌ من معدن رخيصٍ في عُنقكِ ووجهٌ صَدِئ. ثيابٌ داكنة تخميناً شبّهتها بلبسِ الرجال، ولغوٌ كثير..
أيّ طِفلٍ أنت! ردّدتَ الهُتافات قبل أن تتعلّم العدّ، وقبل حفظ اسمك قُلت “العدوّ”. ما اسقطتَ طيراً بحجرٍ، عرفتَ الصّيد طلقةً تقنُصُ غالياً. لا درّبتَ كلباً على المشي، ولا غنّيتَ للغيم واليعاسيب.
أي طِفلٍ أنت!! تُهَدهِدُكَ الجدّةُ: ” نم يا صغيري، قتلوا أباك وأهدوا أمّك الصّورة، لا تبكي يا ولدي لا تبكي، ونم، قتلوا أباك وأهدوا أمّك الرّصاصة..”
حلمتَ -كما يحلمُ الطّفلُ- بأن يخطفك الغجر، أن يُثبّتوا لك أرجوحةً بين شجرتين، أن يضعوا في أُذنك حلقاً من فِضّةٍ ويُطلِقوا شعرك سارحاً على جبينك. حلمتَ أن تختبئ عن رِفاق لك، أن يبحثوا عنك حتّى يملّوا وتخرج عليهم مُلوِّحاً غالباً.
حلمتَ لليلتين وفي الثّالثة دقّوا الباب عليك، قادوك كي تُناصِرهم، في انتظارك وطنٌ وناسٌ شَرَدوا، في انتظارك قبرٌ وفوق القبر قبرٌ وفوقَ القبر قبرٌ، واحدٌ لك تهرب منه وأثنان تملؤهما بجثث الغاشمين..
أي طِفلٍ أنت!! عشتَ الجوعَ قبل نباتِ ذقنك والخوفَ ذُقتَهُ بأسنانٍ لبنية.
أي طِفلٍ أنت، وأي أملٍ أرجوه مِنك يا طفلُ!!
أهلُكَ حفروا الجُبَّ لك، شبكوا أيديهم لتصعد فوق السّور ولمّا ارتفعتَ فكّوا وغابوا. تركوكَ حافياً بركبةٍ مجروحة تمشي عُمراً مِن الثّارات دون خلاص. خدعوك يا طفلُ، خدعوا الطّفولة فيك. غشّوا رؤياك بالرّماد وخانوا مهدكَ حين حرقوا الخشب.
خدعوك يا طِفلُ وأيُ نصرٍ يرمون بخِداعُ طِفل..
تعال صغيري، قَرِّب رُعبكَ مِني، ثم خبّرني بربك ماذا رأيت!!
كِبارٌ لَهوهم لهو النّادِبات بالمآسي ولهو الحفّارين بنقش الشّواهد، ضلّلوك وهم أهلُ الضّلالة، جرّوك من ساعدك الطّري إلى مصائر ضاقت عليهم. أرادوك نِدّاً للظالمين، وقوتاً للخيالِ العَفِن. أرادوك حطباً بعروقك الخضراء وكُنت.
أخذوك يا طِفلُ، بذنوبهم أخذوك..
رمدٌ في عيوني، بالكادِ أُبصرُ، لكنّكَ جليٌ في ظِلال المعارك.
بالحيرةِ تملأ سِلال طعامك، بالقتلِ تُهادِنُ مَطلعاً أنهكك، ووحدك تُكملُ حصدَ الوجع..
وأنتَ الطفل فماذا أُسمّيك؟ كَبشَ البلاء، قُربانَ المُصيبةِ ، بُشرى الهلاكِ وأسماء أُخرى..
تُهدِهدُ روحك: نم يا صغيري، قتلوا حياتك.. نم يا صغيري.
جاوبني خِتاماً أيّها الطِفلُ، أيُّنا الطفل؟
بين أصابعك سيجارةُ النّاقمين، على كتفك بارودة، ومهما تفعلُ شرّاً ترى..
الصورة: AFP PHOTO / DIMITAR DILKOFF
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.