اليوم الثالث عشر 13/2
أشارت الساعة إلى العاشرة ليلاً، يوجد في المهجع عنصران نائمان أما الخمسة عشر الباقون فمستيقظون، هناك حلقة من ثلاثة يتحدثون، وهناك حلقة من أربعة يراقبون لعبة الورق، وهنا اثنان يمشيان في ممر المهجع أما الباقي فيقرؤون . من عادتي أنام باكراً وأستيقظ باكراً. وهكذا لا أدري متى رأيت هذا الحلم أبعد منتصف الليل أم قبله!. لا أعلم . رأيت نفسي في أزقة البلدة “السلمية ” والوقت بين الغياب وبين انتشار الظلمة وكأنني أقصد مكاناً معيناً، وصلت المكان الذي يبنى وهو كوخ من الخشب ما زال جزءاً منه غير تام والذي يعمل هو المهندس الزراعي أكرم زعير، وهو سجين بيننا أراه بين يوم وآخر . يمتاز أكرم بالمرح وهو من عائلة متوسطة الحال يعمل قسم منها أعمالاً ميكانيكية ويقتنون الحفارات المائية، ويعمل قسم منها في الزراعة وبعد تخرجه تم تعيينه باتحاد الفلاحين – الرابطة في بلدة السلمية التي ينتمي إليها وعقد خطوبته على معلمة من آل الحموي ثم جاء إلى السجن، هذه الخطيبة لا تزال تنتظره وتزوره منذ ثماني سنوات ونصف.
رأيت في الحلم بناء الكشك وفي خارجه قامت العوارض الخشبية التي تشبه معرشات الدوالي وأكرم يشتغل عليها مقرفصاً بحجمه الوسط . ناديت عليه رغم الظلمة فجاوبني. التفت رأيت جواري طستاً ممتلئاً ماءً وإذ بأكرم يلقي نفسه من أعلى العارضة ويأتي مقرفصاً، قلت له: لقد ألقيت نفسك إلى الأرض وجئت كما تريد كرياضي بيني وبين الطست. لماذا هكذا تصرفت ؟ .. قال ضاحكاً: حِدْتُ عن الماء وحاذرت إيذاءك، في الصباح رأيته وحكيت له الحلم وضحكنا.
اليوم الرابع عشر 14/2
قصفت أمريكا. ملجأ العامرية .. وهكذا يكذب ادعاءها بأنها لا يمكن أن تتعرض للسكان. وجَّه الإعلام العراقي ضربة إلى الإعلام الأمريكي والأوربي. يرى البعض أن العراق يخوض معركة شرسة ويرى البعض أن احتلال الكويت من أجل المزيد من الهيمنة والسيطرة الأمريكية. يرى البعض كذلك أن توسيع المعركة إلى السعودية والخليج سوف يكون لصالح العراق , ولكن محدوديتها في الكويت فقط سوف تكون لصالح أمريكا وحلفائها . ومهما يكن فالنظام العراقي على المستوى الداخلي فكك البلاد وفرض عليها إرهاباً قل مثيله في العالم، فهو ضرب الأكراد وضرب الشيعة وعادى إيران وليس بينه وبين نظام الأسد أي علاقة.
إن النظامين البعثيين يحقدان على بعضهما جداً هما ديكتاتوريان، وإرهابيان، ومجرمان بحق شعبهما. ومن يقول أن نظام صدام فيه مروءة العروبي هو غبي وغير متعمق في أصل النظام كلاهما استولى على الحكم وقتل رفاقه وقيادات حزبه واستفرد بالحكم، وكلاهما صادر التنفس وكلاهما له مصالح مع أمريكا والسعودية . لكن الأسد ثعلب حقيقي أما صدام فهو ثور هائج. البعض يعتبر صدام حسين قمة في الوطنية والثورية وأنه مرسل لتوحيد العرب، وتحرير النفط، وطرد الأجنبي من أرض العرب، والبعض يؤكد على يقظة الضمير لدى الملك حسين. إن السجين يخضع لضغوط شتى .. الأخبار تفعل فعلها فينا .. حياتنا رتيبة وحزينة دوماً.
اليوم الخامس عشر 15/2
أذاع راديو بغداد نص بيان هو مبادرة سلام بعد مضي شهر على المعارك الدائرة وقد طرحت هذه المبادرة:
انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي المحتلة.
انسحاب النظام السوري من لبنان.
انسحاب متزامن للقوات العراقية وقوات الحلفاء.
وقد رفضت هذه المبادرة فوراً من قبل واشنطن ولندن وباريز وتم الترحيب بها من قبل طهران وموسكو. إن الحلفاء لا يريدون من أحد أن يشاركهم في القرار. يريدون السيطرة وتسويق النفط، وسلب الخليج الإرادة فوق ما هو مسلوب .. السؤال الآن والذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع صدام الصمود لكي يفرض شروطه؟
صدام حسين في انقلابه على حزب البعث واستلامه الحكم لم يكن سوى مغامر، ويؤمن بالدم والإرهاب ولذا وجد الأمريكان بمغامراته وعناده فسحة واسعة لتحقيق أحلامهم وقد نفخ إعلامهم في قوته وخطره على الديمقراطية.
أقرأ في كتاب هاوزر وقد وصلت إلى القرون الوسطى. المركزية الأوربية في جل تسلسلها الفني والاجتماعي والأدبي والفلسفي لا تأتي على ذكر الحضارة العربية، وكأنها خارج التسلسل الحضاري.
الجو العام القائم في المهجع ناقم على الأوربيين والأمريكيين , لأنهم لا يريدون تطبيق قرارات الأمم المتحدة على إسرائيل، وقد سمعنا “نافون” يتكلم من إذاعة لندن أن دولته شرعية وأن إسرائيل ملتزمة بالقانون الدولي.
اليوم السادس عشر 16/2
بعد إعلان البيان من إذاعة بغداد البارحة أطلقت القوات العراقية في بداية هذا النهار صواريخ على مدن جبيل والظهران والرياض في العربية السعودية وصواريخ في الليلة الماضية على إسرائيل . واستمعنا إلى حديث الجنرال أركان حرب متقاعد سعد الدين الشاذلي الذي أشاد بالصمود العراقي حتى الآن، وبسلامة قواته البرية وبخوف الحلفاء من شن الهجوم البري، وتشجيعـه على خوض المعركة البرية . وقدر البعض – وهذا يدل على رغبة خاصة أكثر منه رأياً – أن خوض العراق للمعركة البرية يقرب النظام السوري من السقوط. وآخرون يرون أن العراق سيندحر وأنه لم يعد للمعركة عدتها وأنه بالأساس نظام فردي فاشل , وثمة من يقول أن للأسد دور في التخريب الوطني.
إن الآراء والمناقشات والحوارات تتداخل في عالم السجن . يقول بعضهم إذا ما ظفر العراق على أعدائه في المعارك البرية القادمة سيؤدي ذلك إلى تغيير خارطة تشرشل وسيكون مستقبل أمريكا وإسرائيل على كف عفريت، رد عليه شخص كنا نعتقد أنه نائم من تحت البطانية: يا صاحبي الحلم غير الواقع والذي يده في النار غير الذي يشرب العصير.
اليوم السابع عشر 17/2
أثناء الخروج إلى ساحة التنفس التقيت الرفيق الشاب يوسف زوده مواليد 1959 . اعتقل في صيف 1983. وقد أمضى عامين اختصاص هندسة دبابات على حساب الجيش في الاتحاد السوفييتي وقبلهما أمضى عاماً في دراسة اللغة الروسية . ولكي ينهي دراسته لا يزال بحاجة لعامين آخرين . أثناء إجازته الصيفية تم القبض عليه ولا يزال، وهو من قرية بين مصياف وحمص في الوادي الذي يبتدئ بالبيضا والبياضة، هذا الوادي الذي ازدهر في الفترة التي كانت فيها أفاميا ,ولا يزال هذا الوادي مليء باللقى . يوسف صريح ويتصرف كالأطفال . قبل خمس سنوات بدأت تظهر لديه أنواع منوعة من التعب العصبي والنفسي , تثيره الضجة ويثيره الكلام الكثير والنقاش والقراءات الصعبة . ومنذ عام مال إلى الصمت والوحدة وعندما تمشي معه تجده أكثر من طبيعي، ويتكلم بطيبة عن أعصابه وعن ضَياعه، وإحساسه بالملل واللاجدوى، يمر بحالة من الفصام والزوغان في الذاكرة، ويسمع أحياناً أصواتاً متداخلة يصاحبها طنين وينقطع.
مشيت وإياه حدثته عن زياراتي، عن أولادي، عن قراءاتي، عن بيتي وانتقلت إلى الحديث عن أحوالنا، وأننا بعد تسع سنوات أصبحنا غير طبيعيين وأن اللغة –لغة المحادثة- تتواصل بمفردات غير مفهومة بل تبدو كلغة المتصوفة ملأى بالرمز والدلالات، مفتوحة على كافة الاحتمالات. شعرت أنه ارتاح لحديثي ووصفت له ما أعانيه من إحساس بالظلم وحقد على النظام . كان شارداً مع لمعان في عينيه، ويبتسم بقامته المديدة، سألته عن زياراته فقال: – طوال العام تأتيني زيارة أو زيارتان، والداه عجوزان وأخوته تزوجوا سوى واحد وأحوالهم ليست على ما يرام قلت له: كلنا سواء في حالة العوز. وعدته بلقاءات أخرى.
اليوم الثامن عشر 18/2
الأنباء شحيحة ولا تحمل الزيارات مهماً. السجين دائماً ينتظر ودوماً يترقب، هناك كابوس يخيم فوق عقولنا وصدورنا، ما يجري في الخليج يشغلنا. فإذا ما توسعت الحرب البرية واستطاع العراق الوصول إلى السعودية رغم الأقمار الصناعية، فإن أمر مصير الحرب لن يكون بيد الولايات المتحدة، أما غير ذلك فالدمار مصير العراق .. مصدر أخبارنا هي محطات الإذاعات، وهي مشوشة ومشوهة، ولا من إذاعة موثوقة . البعض يقول أن إذاعة عمان صادقة، وكأنه يقول أن الملك حسين صادقاً ووطنياً. إن الملك حسين سليل عائلة اقطاعية بدوية تربت في أحضان الإنكليز .. الأكثرية بيننا لا تطمئن إلى ماضي حاكم العراق بسبب فرديته وإيقاع الجور والتصفيات فوق رؤوس العراقيين، البعض يرى أن ضرورات تفرض علينا دعم العراق وتأييد موقفه، الذي يواجه الإمبريالية وحكام الجزيرة العربية العملاء.
هل نظام صدام حسين لديه القدرة لمواجهة الأمبريالية؟ وبالأمس كان يتواصل معها ضد إيران ؟ .. البعض منا يشك في ذلك وقد وقع كثيرون في التضليل والغشاوة وانساقوا وراء أحلام طوباوية.
اليوم التاسع عشر 19/2
منذ الصباح خرجت إلى الممر وبدأت أقوم ببعض التمارين الرياضية وبعد ربع ساعة أو أكثر بقليل خرج المهجع السادس ودخل مهجعنا وبقيت أكمل تماريني. من عناصر المهجع السادس المدعو أزدشير حيدر، اسمه مميز وشخصه كذلك . هو من مواليد 1942 تقريباً أميل إلى القصر ذو جسم قويّ، ومليء ومتطرف في آرائه، وكان في الجيش وفي اللواء (70) مع صهره الرائد منير العلي حتى عام 1970, ومن الأنصار المتحمسين وأصدقاء العقيد عزت جديد، وهما ممن استدعاهم اللواء حافظ الأسد في بداية حركته (التصحيحية) وحاول إقناعهما بوجهة نظره ضد القيادة، وضد صلاح جديد بالذات فلم يقتنعا. وتم فيما بعد تسريحهما. أزدشير برتبة نقيب وأبو علي منير برتبة رائد. سألته عن صهره قال: أحسن وهو يسير نحو التحسن مع رحيل البرد، وسألته عن أذنه اليمنى قال: – سيئة جداً ولا أسمع بها، وسألته عن قراءاته ومستوى رؤيته، فقال : إنني أعاني من قصر النظر. رغم الظاهر الذي ينبئ بجودة عينيه وسعتهما. بعد تسريحه عام 1971 عمل في إحدى شركات التنقيب عن النفط ، والتي مقرها في سورية وسافر إلى العراق، وإلى إيران لكونه موظفاً إدارياً في هذه الشركة، ما يلفت النظر في هذا الرفيق هو اسمه، فهو اسم إيراني وكان هذا الاسم يطلق على أحد الأكاسرة قبل الإسلام ومعناه باللغة الفارسية القديمة الأسد. والملفت للنظر أن والده سكن في حمص واشترى عقاراً وفتح محلاً لبيع الحبوب بعد الحرب العالمية الأولى قادماً من جبال اللاذقية. هذا من جهة ومن جهة ثانية أسفار هذا الوالد المتواصلة إلى إيران وارتباطاته بصداقات مع رجال ومشايخ من شتى محافظات القطر الإيراني، فسمّى ابنه على اسم أحد أصدقائه وكان يزوره في إيران، وكان هذا يأتي لزيارته إلى سورية.تعرض الرفيق أزدشير أثناء التحقيق لضرب قاس ومبرِّح أكثر منا بقليل لكونه من الأعضاء الأساسيين في التنظيم العسكري ومن الذين مثلوا هذا التنظيم في المؤتمر الحزبي الذي عقد على الأرض الأسبانية برئاسة الرفيق إبراهيم ماخوس وزير الخارجية قبل الحركة الانقلابية التي قادها حافظ الأسد . كما تعرض الرفيق أزدشير لصعقات بالتيار الكهربائي شديدة الفعالية، كما عطبت (الكرسي الكهربائي) ظهره . وعندما جرى اعتقاله في حمص كان على رأس المفرزة التي اعتقلته الضابط الرائد غازي كنعان إبن دورته، وقد طُلب منه حياً أو ميتاً وكان يومها رئيس فرع التحقيق العسكري في حمص.
ودعته وتمنيت له التحسـن في صحتـه، وفجـأة أعلن رقيـب الانضباط أن المهاجع ذوات الأرقام :10 , 9 , 8 , 7 , التي تتأثر بالرطوبة يجب خروج عناصرها، وأن يحملوا معهم البطانيات والفرش إلى ساحة التنفس من أجل تعربضها للشمس.
منذ شهر أو أكثر لم أر الشمس ولم أمش تحت أشعتها , وهكذا رأيت الآن بفرح بعض الغيوم البيضاء ورأيت بين فراغات هذه الغيوم السماء الزرقاء , وكان رف كثيف من العصافير يمر فنراقب كل ذلك بلوعة ولهفة واشتياق.
اليوم العشرون 20/2
نسمع إذاعة طهران، نسمع إذاعة عمان، نسمع تونس، الجزائر، وكل إذاعة أجنبية ناطقة بالعربية كي نسمع شرحاً عن المبادرة السوفيتية بشأن حل مسألة حرب الخليج . إن العراق يتم تدميره دون أن تقع المعارك البرية المرتقبة , وكأن صدام يرسل ضباطه قصداً إلى الموت، تقول المبادرة: إن السوفييت لا يسمحون بتدمير العراق، كما أن السوفييت يدعون إلى عقد مؤتمر لبحث شؤون المنطقة، وفي طليعتها الصراع العربي – الإسرائيلي، وربما يجري الحديث عن أمور لبنان لأن وجود القوات السورية بلبنان هو برضى أمريكي وبوفاق صهيوني بين الأمريكان وإسرائيل. طارق عزيز في موسكو وفور عودته عن طريق البر ستؤكد الوقائع أهمية انعقاد هذا المؤتمر.
هناك رفض ومراوغة لانعقاد المؤتمر من قبل أمريكا وإنكلترا ومعهما كافة الحلفاء ، إن نقل الأخبار بين المهاجع عن طريق شبابيك التواليتات مستمر، يقول رفيقنا للمهجع , الذي كان يقف ويلتقط الأخبار من النافذة: أسمعتم؟ ماذا قال الشاذلي بخصوص القوات العراقية وقدراتها , وهل سمعتم ماذا قال القليبي أمين الجامعة العربية المستقيل؟ وفي الممر أثناء التقاء أفراد مهجعنا بأفراد مهجع آخر تسمع النقاشات، والتحليلات، والتأشيرات ورفع الأيدي، والأصوات . وثمة من يقول أن الهجوم الأمريكي زاد من وطنية صدام , وأن أمريكا مصرّة على إنهاء العراق لا لأن حاكمها مستبداً، بل لأنه قرر أن يواجه مصالحها وعنجيتها ويريد أن يعترض طفلها المدلل “إسرائيل”.
أعتقد أننا نتمتع بحرية الكلام هنا أكثر من الذين خارج (السجن)، إن الكلام هنا موجود والحركة هي الممنوعة. أما الذين في الخارج فحرية الكلام ممنوعة وحرية الحركة هي المسموحة، كلانا – هم ونحن – يلزمنا ما يحقق إنسانيتنا وآدميتنا.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.