1 ــ (سندريلا)
على عجلٍ وتحت ستار الليل, وبوشاحٍ يغطي كل وجهها باستثناء عينيها.. كانت سندريلا تلصق على جدار زقاقٍ عتيق ملصقات معارضة. من بعيد لمحها جنود الملك, فطاردوها بحنق بين الأزقة, لكنها اختفت فجأة, ولم يعثرواسوى على فردة حذائها. الخبر وصل للملك فاستشاط غضباً, ثم أمر جيشه بالتوجه إلى كل مدن المملكة, وإجبار الناس على دسّ أرجلهم في الحذاء.. وقتل كل من يتطابق حجم رجله مع حجم الحذاء. خلال شهورٍ قليلة اقتحم جنود الملك كل المدن والقرى, وارتكبوا بها الكثير من المجازر, لأن أرجل كل الناس.. رجالاً ونساءً.. أطفالاً وشيوخاً, كان حجمها يتطابق مع حجم هذا الحذاء. عندما انتهى الشعب رجع الجنود إلى ملكهم, فقلدهم بغبطة أوسمة النصر. رغم هذا.. ظلت سندريلا تظهر ليلاً في زقاقٍ ما, كل بضعة أيام.. لتلصق على جداره ملصقاً معارضاً. ثم تهرب, تاركةً خلفها في كل مرة.. فردة حذاء.
2 ــ (القديس)
ذلك القديس العجوز المحشور بكل براءته, مع هالةٍ من النور حول رأسه, بين قضبان صورته العتيقة, والمعلقة على هذا الجدار.
كفكف دموعه وهو يرمق متألماً بعينيه الحزينتين هذا المنظر القاسي, الذي أدمى له قلبه خلال دقائق.
ثم ــ وبلحظة جنون ــ وكأنه فقد عقله, التقط بيديه ثوبه الطويل.. وراح يرفعه حتى خصره, ثم شرع بالتبول غضباً من قماش صورته إلى الخارج, وكأن صورته على الجدار مجرد نافورة.
ثمة جنديٌ داكن الملامح, منحني أسفل الصورة تماماً.. بلل البول خوذته ثم وجهه ثم بزته ثم مؤخرته.
لكنه لم ينتبه أبداً, فقد كان منهمكاً بفك تلك الساعات الجلدية المتواضعة, عن معاصم الأطفال, الذين قتلهم منذ قليل.
3 ــ (مزهرية.. من مجزرة)
هطلت القذائف كمطر ٍغزير على ساحة القرية, حيث كان فيها حفل زفاف ٍمتواضع.
هرول والده بخوف إلى الساحة ليبحث عن أمه, فلحقه طفلهما الصغير.
لم يعثر والده بين الجثث التي ذابت ملامح وجوه بعضها على والدته.
أحد الجرحى طمأنه بأنه قد لمحها عن كثب تغادر الحفلة قبل القذائف ببضع دقائق.
الطفل كان ــ وبسعادة ــ يلهو بالتقاط الأيدي المقطوعة من بين الأشلاء البشرية وهو يظنها دمى, فجمع عدة أيدي.
صرخ عليه والده وهو يأمره بالرجوع حالاً للبيت, ثم وعده بأنه سيرجع إلى البيت بعد قليل, وأمه معه.
ركض الطفل وهو يحضن إلى صدره الأيدي المقطوعة.
في البيت, داخل غرفة الجلوس, التقط المزهرية عن الطاولة, ورمى عنها الورود ليدسّ بها تلك الأيدي, ثم وضعها جانبه على الأريكة وهو يتأملها ويبتسم ببلاهة.
تأخر والده ووالدته.. شعر بالنعاس, تثاءب.. ثم غفا جانب المزهرية.
بعد أن نام.. ثمة يدٌ من الأيدي في المزهرية, مالت إليه بهدوء, لتمسح بحنان على شعره الناعم.
4 ــ (الطفل والحرب)
بضع قذائف سقطت على الشارع الرئيسي في السوق, بعد برهة.. نهض هذا الطفل من بين جثث القتلى وأجساد الجرحى وهو يتألم.
ثم انتبه إلى أن يده كانت مقطوعة, فراح يبحث عنها بين فوضى الأشلاء البشرية وهو يبكي بمرارة وألم, علّه يعثر عليها.
فجأةً.. عثر على يد ٍأخرى مقطوعة, يبدو من شكلها أنها لجثة رجل ٍمتقدم ٍبالسن.
التقطها الطفل ثم وضعها على معصمه, وتأملها لثوان ببلاهة.
سرعان ما راح يقفز بسعادة بين الجثث أمام الجرحى, وهو يصرخ كمجنون:
ـــ لقد كبرت.. لقد كبرت.. لقد كبرت.
5 ــ (تشكّل)
قبل الحدود ببضع تلالٍ ومنحدرات, انهمرت عليهم القذائف, فركض أولئك النازحون بصخب ٍ وخوف.
أمسك الأب يد طفله, وهرولا مع العشرات في هذه الفوضى البشرية.
القذائف قتلت بعضهم وجرحت بعضهم الآخر, لكن لا أحد انتبه لأحد في فوضى الرعب هذه.
بعد أن اجتازوا الحدود تنفسوا الصعداء.. ثم مشوا نحو ذلك المخيم.
باستثناء هذا الطفل الذي عندما تخطى الحدود نظر إلى يمينه, فلم يشاهد من كل والده إلا يده الممسك بها.
تأمل الطفل يد والده المقطوعة, ضمها إلى صدره, ثم جلس على صخرةٍ جانب الأسلاك الشائكة.
ابتسم ببلاهة وهو يمعن نظره في البعيد, منتظراً قدوم أشلاء والده, لتتحد مع يده هذه فتعيد تشكيله.
تماماً.. مثلما كان يتشكّل (غرندايزر ) في ذلك المسلسل الكرتوني.
6 ــ (الزوجة)
كانت منحية تكنس أرض الغرفة, غير آبهةٍ لصدى الرصاص القادم من بعيد, ألمٌ خاطف لمع في ظهرها فوقفت وتآوهت بصمت.
صدفة ًوقعت عينها على صورة زوجها المتوفى منذ بضع أسابيع, والمعلقة على الجدار.
خفق قلبها بغموضٍ غريب, تأملت صورته بكثير ٍمن الاستغراب.
رغم أنها كل يوم تتأملها لساعات.. لكن في هذه اللحظة أحست وكأن زوجها يبتسم, وليس أي ابتسامة.
إنما هي ذاتها تلك الابتسامة القديمة, التي كانت ترتسم على وجهه قبل أن ينحني إليها, ليسرق على غفلةٍ منها قبلة ًسريعة ورقيقة أيام خطوبتهما.
أرادت الزوجة أن تمعن النظر في الصورة أكثر, وقد أعيتها الدهشة.
فجأة ً.. قنبلة تقتحم النافذة وتنفجر خلف الزوجة لتحولها إلى أشلاء.
بعد برهة, وكان دمها قد تخثر على البلاط, نهضت وجمعت أشلاءها ثم صعدت بهدوءٍ إلى صورة زوجها, حيث دخلتها,
حضنا بعضهما.. وشرعا بقبلةٍ طويلة.
7 ــ (غبار على الخيال)
كانت الحرب كعادتها اليومية, تمارس قذائفها هذه الليلة على مقربة ٍمن غرفته. لم يأبه أبداً لضجيج الانفجارات, وإنما ظلّ لساعات يتأمل بلا مبالاة هذا الغبار المتراكم منذ أشهر على أثاث غرفته, وهو يدخن بشراهة. شعر بالملل فالتقط علبة سردين, فتحها والتهمها ببطء عن غير شهية. عندما انتهى, أشعل سيجارة وعبّ منها بعمق. أثناء النصف الأول من سيجارته, كان يرمق بصمت علبة السردين الفارغة, على سطح طاولته. تخيلها التابوت المناسب لجثته, فابتسم ببلاهة. أثناء النصف الثاني من سيجارته, علبة السردين الفارغة تأملته بصمت, فتخيلته الجثة المناسبة لفراغها الداخلي, عندئذٍ.. هي أيضاً, ابتسمت ببلاهة.
8 ــ (الرجوع إلى الرقص)
وقفت الملكة أمام مرآتها وسألتها بغرور:
ـــ هل هنالك من هي أجمل مني ؟..
شهقت متعجبة من جواب مرآتها الذي تغير الآن بعد أن ظل نفسه زمناً طويلاً.
ـــ نعم.. هنالك من هي أجمل منك يا سيدتي..
كادت أن تنفجر غيظاً, فسألتها بحقد:
ـــ من هي ؟.. أرني صورتها..
عندئذٍ.. وكأن زجاجها شاشة تلفاز, راحت المرآة تبث لها نقلاً حياً لمظاهرة هائلة لحشودٍ من الفقراء وهم في الشوارع, يشتمون كل شيء, يكسرون كل شيء, يحرقون كل شيء.
همست لها مرآتها بثقة:
ـــ هذه المظاهرة أجمل منك يا سيدتي..
لم تحتمل الملكة وقاحة مرآتها, فقذفتها بكأس ذهبية تشرب منها الماء.
تحطم كل زجاجها, وتحولت المرآة إلى فوهة فارغة.
فجأةً.. قفز من هذه الفوهة المتظاهرون.
قتلوا الملكة, ثم عثروا على الملك أسفل سريره فقتلوه أيضاً رغم توسلاته, و أشعلوا النار في كل الصالات والغرف والستائر بجنونهم الجميل.
في بهو القصر.. الطفل بائع الكعك راح يعزف لهم على البيانو كيفما اتفق.
ليرقصوا بفرح كثنائيات منسجمة مع بعضها بثيابهم الرثة كما النبلاء, غير آبهين للنيران التي أشعلوها.
رقصوا رقصتهم المفضلة, تلك التي حرموا منها لعقودٍ مريرة.
9 ــ (الطفلة في هذا المساء الشتوي البارد)
بعد أن سقطت تحت المطر عدة مرات على الرصيف.
الطفلة ذات الأعوام الأربعة دخلت إلى الصيدلية بوجهها الشاحب, وهي تغطي جسدها الصغير بغطاءٍ رث.. لتترك على بلاط الصيدلية خلفها أثار من طين.
عندما شاهدها الصيدلي عرفها, فهي تسكن مع أمها ووالدها في قبو مجاور لصيدليته بعد أن نزحوا من قريتهم البعيدة بسبب الحرب منذ أشهر.
شهق وقد استغرب من والديها كيف يرسلونها إلى الصيدلية حافية ًتحت المطر, فسألها بغضب:
ــ أين والدك؟..
أجابته متلعثمة:
ــ خرج في الصباح ليجلب طعاماً و زجاجة مازوت.. لكنه لم يرجع حتى الآن..
ــ وأين أمك؟.
ــ أمي مستلقية في الغرفة..
تنهد الصيدلي.. عندئذٍ أخرجت الطفلة كفها من أسفل الغطاء, وفوق زجاج طاولته سقطت منها قطع معدنية.
أجهشت فجأةً بالبكاء وهي تقول له:
ــ أعطني دواءً يعيد أمي للحياة بأربع ليرات ونصف.
10 ــ (ليلة اختفاء الزعيم من كل المرايا)
في هذه البلاد ثمة شيءٌ غريب يحدث منذ عقود, حتى صار بالنسبة لسكانها مع توالي الأجيال شيئاً اعتيادياً.
زعيم البلاد موجود في كل المرايا المنزلية الكبيرة والمتوسطة, وأيضاً في المرايا الصغيرة داخل الحقائب.
كلما مشط أحدهم شعره أمام مرآته, يشاهد فيها الزعيم يمشط شعره وبذات التسريحة.
آخر يحلق ذقنه فيرى في المرآة الزعيم يحلق ذقنه.
رجلٌ ما يعقد ربطة عنقه, الزعيم كذلك و في نفس المرآة يعقد ربطة عنقه.
زوجة تلون وجهها بألوان مكياجها, الزعيم في مرآتها يلون وجهه بألوان مكياجها.
مراهقة وبطيش أنثوي تشد فستانها على جسدها, وتستدير حتى تتأكد من أنها مغرية, ثم تتأمل أرداف الزعيم على زجاج مرآتها.
مرة.. ذبابة كانت تحلق أمام المرآة بسعادة, فلمحت الزعيم يحلق داخلها بسعادة أيضاً.
في شتاءٍ قديم, أراد أحد المخمورين أن يقتل الزعيم, وقف أمام مرآته وهو يترنح ثم أطلق النار على رأسه ليسقط ميتاً, الزعيم في ذات المرآة أطلق النار على رأسه وسقط منها ميتاً.. لكنّه ظلّ حيّاً في بقية مرايا البلاد.
هذه الليلة وإثر وعكة صحية غامضة, تحشرج الزعيم قليلاً في سريره ثم مات.
انتشر خبر موته همسا ً في كل البلاد, لم يصدق الناس الخبر, فتسللوا بحذر إلى المرايا في بيوتهم ليتأملوا وجوههم وهم يشهقون مندهشين.
بعضهم مسح بكفه زجاج مرآته غير مصدق, وبعضهم الآخر مسح بكفه على وجهه غير مصدق.
سرعان ما ابتسموا.. نظروا طويلاً في المرايا وهم يكتشفون بفرح للمرة الأولى ملامح وجوههم.
ملامح وجوههم التي حرموا منها لعقودٍ مريرة.
سوريا – 2013 الصورة: عدسة شاب حلبي
لأول مرة اقرأ لك ، ولكنك استطعت أن تدهشني وتجذب الآه من صدري
مازلت قادرا على إدهاشي في كل مرة…..انسان ملئ بالمفاجئات
شكراً علي الغالي.. ويسرني هذا الشيء..
استاذ مصطفى انا معجب جداً بهذه القصص .. استاذ مصطفى هل تسمح لهذه القصص ان تكون افلام قصيرة او اعمال درامية ؟؟؟
رائعة تناسب الأدب الالكتروني
مصطفى المشبع أنسانية ذاك الرائع في زمن الموت اﻷسود تغمرنا كلماته و رؤياه الجميلة دوما بشغف لامثيل له لنمارس الحياة رقصا وحبا برغم كل القبح و اﻷلم تبارك قلمك ياعزيزي
شكراً من القلب لك عمار الغالي.. كلماتك شهادة أعتز بها..
كعادته العصية على الهزيمة… ينهض مصطفى الجميل من بين ركام الموت والدمار ياسمينة سورية بامتياز محارب… لكنه …محارب من نور هذه المرة … بعيداً خلف نافذته في قبوه الرطب .. لا تزال الحرب الساخنة تمارس دعارة القتل مع عشيقها البارد ليل دمشق الأبدي تحت مظلة سادة الحرب… السلام لأصابعك الجميلة صديقي… والمحبة لقصصك الدافئة من قبونا الرطب في بلاد الشتات القصري والآني الذي لا بد من أن نخرج منه يوماً لحرية طال انتظارها ولكنها حتماً قادمة.
رائعة كب واحدة أروع من التي سبقتها
1 رائعة ومبتدعة ومعبرة ولكل نظام سندريلا الخاصة به
2-10 رائعة ومؤلمة
وحده ذاك القلم بيد مصطفى يرقص التانغو على أنغام دمشقية
من أروع ماقرأت