متقابلان على طاولة صغيرة في مقهى بمنطقة الجاحظ، وبكامل أناقتهما يحدقان بالمارة ويلقيان فوقيتهما تعاويذاً على رؤوس البشر. التعابير لا تتغير كثيراً، لايهم … لم يكونا بالسابق هنا إلا لممارسة طبقيتهما، وجودهما الجسدي لم يعد عبئاً على المكان. يتحركان ضمن أماكنهما المحدودة لكي لا يصطدما بالعامة الباقية حية والتي تشاركهما ما تبقى من أوكسجين في هذه البلاد.
لم تعد للأماكن أناقتها السابقة وتعاليها المقترن بمقدار ما يمكن دفعه، يتساوى البشر في الخسارة فما بال الأماكن!! الكل على خطٍ مستوٍ واحد، الأماكن على نفس ذلك الطابق المدعو “الميزانيين” -لاطابق بالتحديد-.
ما زالوا يحاولون الإشارة إلى وجودهم بأناقتهم المفرطة التي لم تعد تنتمي للمكان أو تعني له شيئاً. أصبحت المدينة ملكاً عاطفياً لأصحاب الخسارات، ونفسياً لناشطيها مسروقي حلم الثورة والتغيير. المدينة لمن قادر على التضحية لأجلها والاستمرار بالبقاء لمتابعة الحياة.
“إني أتحصن في هذه القلعة وأكابد هذا الحصار لا لكي أرضي سلطاناً أو أحمي إمارة، إني هنا كي لا يقال في قادم الأيام اجتاح تيمورلنك هذه البلاد ولم يوجد من يقاوم .. إني هنا كي لا يموت الشرف في هذه الأمة”
منمنمات تاريخية … سعد الله ونوس.
ناديا …
هي نديدة، ولكن لصعوبة تركيب أحرف إسمها كانت .. ناديا. إمرأة نحيلة ذات بنية عظمية قوية، وشعر طويل فاتح اللون مع تموجات ناعمة .. في بداية عقدها الرابع هي. بكل أحاديثنا عمّا حدث لبرزة وحجم الخسارات المادية والبشرية التي حلّت بأسرتها، لم أتلمس إحساس الضحية ولم يترك لي وجهها الهادئ الخالي من تجاعيد الأحداث أي مساحة نفسية للشفقة.
هي ثورة الكرامة .. هذا ماصرحت به أجسادهن. أدهشتني تلك الإنتصابة بالروح المنعكسة على طريقة مشية نساء أسرتها من طرفي الأم والأب، كثير من الفخر والعزة بأن برزة لم تُسلم ولم يستطع النظام إختراقها. يتحركنّ كالمتربّع على قمة الحياة بالرغم من خسارتهن تقريباً لكل شيء، حتى الأخوة والأقرباء.
يداها غارقتان في جيب معطفها الرمادي تحدثني ونحن نعبر الحارات المدمرة عن أرواح من عَبروها من الشهداء وكيف أنهم اضطروا إلى دفن الكثير منهم من غير إلقاء نظرة الوداع الأخيرة، صوتها يعلو وينخفض حسب خطورة ما تخبرني به. كانت زاوية بيت أختها المقابل للنهر عندما كلتانا حبست دموعها وجمدت إنفعلاتها، حيث أشارت إلى الحجر الذي إعتاد إبن أختها وإثنين من أصدقائه الجلوس عليه، عندما أتت قذيفة هاون وأنهت تلك الذكريات معلنةَ لحظة قدرية ببقائهم مترافقين حتى في الموت …. أَردت أن أُترك لأجثو على ركبتي وأبكي الشهداء .
“آه أشعر بتعب شديد هذه الأيام و وهن أجرجر بسببه أقدامي بصعوبة، كيف كنّا نركض بالمظاهرات من غير أن ينال منّا أي تعب؟ علينا أن ننظم مظاهرة هنا، لا لشيء فقط كي نركض …… هاهاهاهاهاهاهاهاها”
وما هو الوطن إلا حلم صباحي ليوم خريفي ماطر
حلم .. حالة .. شيء غير قابل للتفسير .. تعلق طفولي بذكريات ما قبل الفطام .. غياب .. عودة .. وتوهان. أبداً لا، وحتماً كل ذلك وأكثر.
هو كالحب، في الوقت المستقطع نجتهد في تفسيره واستمرار البحث عن كلمات لتوصيفه، وتحليل أسبابه وإنعكاس نتائجه علينا. نتكبر ونترفع عن الإعتراف بضعفنا عندما لا نكون غارقين في أحضانه. نرتب المقدمات ونتأكد من أماكن الخاتمات ولا ننسى أن ننمق الأحداث بينهما. عند حدوث الواقعة تصاب ذواكرنا بالزهايمر ونذوب ببطء كقالب الزبدة الجاهز للتشكل على أي نحوٍ بمجرد إمداده بقليل من ذلك الدفء. نضرب عرض الحائط كل نظريات علم النفس، فنكرر ذواتنا وأخطاءنا مُدعين بعدم الوعي لها.
كالحب هو .. نلعن حياتنا بلحظات البعد والفراق، وتأكلنا الوحدة كدود الأرض فنكتب نذورنا على مسامات الجلد معلنين عدم السماح لهكذا ألم بالتكرار. وتكون رعشة ملامسة ماء البحر لأطراف أصابع أقدامنا، حتى ينهار نظامنا الداخلي كقلعة الرمل ونعود للتحليق من جديد.
“يبقى هذا المكان الأقدر على لملّمتي”
وللأوطان ذواكر. من يلتقطها؟
في بلادي، بلاد مملكة الصمت كانت الذاكرة حكراً على من قبع بين جدران السجون وأقبيتها، أو من كان يقف على الخطوط الفاصلة بين عالم الأشباح والواقع المعاش خارجاً. منذ ثلاث سنوات بدأنا نتشارك ذاكرة الوطن.
إنظروا كم كبرت القطة، وما زالت تتوسل الحياة على نفس الزاوية من ذات محل المجوهرات!! جملة يلقيها بشكل عفوي أثناء مرورنا ويوافقه البقية معبرين عن إعجابهم بما آلت إليه منذ سنة مضت.
– لم يكن أحد منا بحاجة لمغادرة منزله في حال كانت الغاية معرفة آخر أخبار الحواجز، فهي هناك تسجل لنا أحوال طقسها اليومي والزمن الذي تستهلكه لتجاوزها، ودون أن يفغل لنا مزاجها الساخر ما يمكن أن يلقيه حراس الوطن من تعليقات وملاحظات عابرة.
– ألم تفكري بالمغادرة؟
ولماذا علّي التفكير بالمغادرة!! بكل استهزاء تجيبني وهي تضع زجاجة البيرة على الطاولة، لتعود وتنظر إلّي … هنا عشت حياتي كلها فلماذا علّي المغادرة؟
– أحب هذه البلاد حتى خرابها الأخير.
هل من الممكن في هذا الزمن أن نُعشق على هذا النحو؟ آه كم سنكون محظوظات !!
– إنها الموافقة الأمنية الأخيرة التي أستطيع الحصول عليها لمغادرة البلاد قبل أن يتم سحبي إلى خدمة العلم. مازال هناك أكثر من شهرين … حتى ذلك الوقت سأكمل تجوالي في هذه المدينة أرصد شهيق سكانها وزفيره.
– سأكون آخر المغادرين لدمشق وعندما يكون كل من على هذه الطاولة قد غادرها. سأغلق أبواب المدينة وألتقط حلم آخر
عصفور يحلق في سمائها، وأنحر روحي على ذكراها.
وحدهم العشاق من يملكون مفاتيح التفاصيل …
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.