في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، دُعيت إلى لندن لأطلق روايتي المترجمة إلى الإنكليزية. أيام عز روح الثورة، حين كانت أشد الخلافات بين الثوار على تسمية أيام الجمع!. لم يكن للنصرة وجود بعد ولا زهران ولا سعدان ولا داعش ولا أيّ من كل هذه ال “كول وشكور”.
وهناك أمّنت لي ناشرتي لقاءً في البرلمان البريطاني مع رئيسة لجنة حقوق الإنسان.
اتصلت بأصدقائي وسهرنا طوال الليل نجمع ما تيسر من الملفات الموثّقة من اللجان المحلية والدولية المحترمة للإنتهاكات التي قام بها النظام. في ذلك الوقت لم يكن عدد الشهداء قد تجاوز الأربعة الآف.
وفعلًا، في الموعد المحدد وصلنا. استقبلنا كاتب وبرلماني محافظ، استطاع حجز الموعد لنا بناء على طلب من الناشرة باربرا شويبك.
كان معي خمس وعشرون دقيقة فقط لأشرح لها بالوثائق حقيقة ما يحدث في سوريا.
سألتني عن التطرف فأخرجت لها وصية غياث مطر مترجمة إلى الإنكليزية.
سألتني عن الأقليات فقلت لها: أنا محسوب على الأقليات وأقول لك إن هذه كذبة.
سألتني عن تجاوزات الثوّار فأظهرت لها تقريرًا مفصّلا لعينات كان يجمعها أصدقاء لنا لرصد التجاوزات في المظاهرات والأفعال الثورية وأنها لا تكاد تُذكر. وأعطيتها صورًا وتقاريرَ عن مظاهرة حماة التاريخية التي لم يطلق النظام فيها النار وكيف أنه لم يحدث خلالها تجاوز واحد من المتظاهرين.
سألتني عن الرئيس الشاب هل هو فعلا السبب؟ أم أن الحرس القديم يسيطر عليه ؟! وبكل ما استطعت استعرضت الوقائع، باستخدام أرقى لغة ممكنة، وضّحت لها أنه يتحمل المسؤولية القانونية الأولى بحكم منصبه.
سألتني كيف نستطيع أن نساعدكم؟
قلت لها بأن تتعاملوا مع السوريين كبشر كاملي الأهلية وليس كمجرد أرقامٍ في إحصاءات. إنها ثورة شعب يواجه أعتى أنواع الدكتاتورية في العالم، ومن واجبكم ألا تتركوا السوريين وحيدين. إن كنتم معنيين تحديدًا بحقوق الإنسان.
بشار الأسد يقتل وعينه على واشنطن ولندن، كلما كان الصمت كبيرًا فهم أن صلاحيته واسعة بالقتل.
خلاص سوريا يبدأ بإختفاء المجرم الأول من المشهد. ومن ثم تفرّجوا على السوريين كيف سيتصرفون.
شكرتني وأخبرتني أنني أول سوري يدخل مكتبها أو يطلب موعدًا منها منذ بداية الثورة. وهمست لي: الكثير منكم يتسابقون لمقابلة في وزارة الخارجية أكثر من همهم بشرح قضيتهم هنا.
تركت لها كل الوثائق وخرجت. في الممر داخل المبنى التاريخي. أسرّ لي أحد من كانوا معنا: اسمع، لا تتعبوا أنفسكم، الغرب لن يتدخل مهما فعل الأسد. أصلا لم تتم شيطنته حتى الآن، مهما كان رديئًا لا بديل له بين الموجودين. إذا أردتم أن تجدوا حلا لا تأتوا إلى هنا، بل توجهوا إلى مكانين يكمن فيهما حل قضيتكم.
سألته عن المكانين فأجاب: تل أبيب وطهران.
كان يوم الجمعة التي صوت الثوار على تسميتها آنذاك “جمعة الحظر الجوي” وتتضمن طلبًا بتدخل الناتو.
أجريت اتصالات بأعضاء في المجلس الوطني آنذاك، وأخبرتهم بما حدث معي. فلم يبدوا إلا استغرابًا واستهتارًا.
بعد عدة أسابيع أرسل لي صديق يقول: إن وزارة الخارجية الأمريكية طلبت منهم أن يجمعوا أكبر عدد من التواقيع لشخصيات سورية متنوعة تطالب بهذا التدخل.
أخبرته بما حدث معي وقلت له: إنها مصيدة، سيحرقون المعارضة الخارجية، ويجعلونكم توقعون على طلب التدخل العسكري في سوريا، ثم لن يتدخلوا، ونصحته ألا يفعل.
اليوم بعد كل هذه السنوات، مازلت متأكدًا بأنهم لن يتدخلوا ولن يسمحوا لحزم بالتدخل. لا إن لمّح الخاشقجي ولا إن أفصح أردغان، والعاصفة ستتحول رويدًا إلى نسيم عليل، وستتم (سورنة اليمن) وعلى الأغلب تقاسم سوريا، فالكل ينعي سايكس بيكو، وسوريا المقسمة إلى أربعٍ كما نراها اليوم نظريًا، ستغدو غدًا أربع دويلات عمليًا. ومازال الوضع كما كان، لامستقبل للبلد موحدًا بوجود بشار النيروني.
فما هو الحل؟
أعجبكم هذا أم لم يعجبكم، لن يخرج بشار الأسد إلا على يد من كان من طبيعته العنفية. وهنا الحل والمأزق، الحل بتوحيد القوى العسكرية تحت راية علم الثورة لا غير، والمأزق أن من خرج لقتال اللأسد “لنصرة هذا الدين: يا حرائر بورما أوجب بنصرتكم ..”
أما المصالحة والحل السياسي فببساطة ماهي إلا تسليم رقاب السوريين مرة أخرى للجزار وعائلته ونظامه، وسيكون انتقامهم أشرس بألف مرة مما هو عليه الآن. (الركوع أوالجوع) ليس شعارا عبثيًا، مثلما (الأسد أو نحرق البلد) ينفذ حرفيًا منذ أربع سنوات.
بعض المعارضين ذهبوا إلى إسرائيل، لأن الرسالة وصلتهم مثل كمال النبواني، وبعضهم ذهب إلى إيران مثل هيثم مناع. لكن هذا لا يكفي. فلو كان بإمكان المعارضة تقديم ما يقدمه النظام لتل أبيب وطهران، لطرد بشار الأسد في اليوم الثاني. ولكن أن تقدم ما يقدمه بشار يعني أن تكون مثله تمامًا، لهذا فالثورة مستمرة ببساطة.
لو كانت الثورة ضد بشار ونظامه لشبع سقوطا. ولكنها ثورة ضد منظومة كاملة. السوريون وحدهم لا يستطيعون إسقاط منظومة متكاملة من إيران إلى العراق إلى لبنان، وهذا يحتاج إلى ثورات داخل هذه البلدان عوضًا عن أن يتحمل السوري وحده تكلفة فاتورة مخيفة.
وأيضًا لا يستطيع السوريون وحدهم الدفاع عن شرف الأمة، وهي بالذات، أي الأمة، لا تعبأ بالشرف.
بالمناسبة، حركة أحرار الأحواز في إيران ومنظمة مجاهدي خلق والكثير من قوى الثورية الإيرانية التي انتفضت عام 2010. الكثير من القوى داخل لبنان والعراق، هي من يجب أن نوجّه لها الرسائل ونطلب التنسيق معها لتوحيد العمل والجهود. فلا أمة العرب ستتدخل، ولا الحزم سيفعل شيئا للسوريين، ولا الأتراك تهمهم سوريا. كل من يضع يده في ثورتنا، من هذا العالم الأخرق، يهتم بجزئية تخصّه من سوريا. لكن القوى الحرّة في هذه المنظومة، هي التي يمكن لها أن تحقق الفرق.
كتب يومًا الشهيد سمير قصير: “استقلال وحرية لبنان من ديمقراطية سورية”.
واليوم نكتب بالخط العريض: حرية العرب جميعًا والشعب الإيراني رهن بانتصار الثورة السورية.
الصورة: مظاهرات مدينة حماة، سوريا. 23 آب/أغسطس 2011. المصدر: يوتيوب
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.