لست من هنا

الإنسان كائن اجتماعي، يحس، يحزن وأحيانا يفرح، كما يقول علماء الإنسانيات أو كما تعلمنا بالمدارس، أيضا الإنسان مخلوق يحب الحفاظ على نوعه من دون قدرته على التحكم بمستقبل ذلك الإنسان وليس صاحب الأطراف المشدودة، والرأس المرفوع تكلفاً والشارب المبروم عنوة. بالطبع ليس القومجي العربي، ولا الماشي بقدرة الله، أبو الثوب الأبيض واللحية الكثيفة، ولا ذاك أبو النظارة (كعب الفنجان) المثقف الخطير. يمكنك التطوع في هذا المركز، لن تصنف كالأنواع السابقة. على الأقل لم تكتشف علة وجودك بعد كهؤلاء. منذ وصولك إلى بلاد الإنكليز وأنت تهذي بمفردات غريبة، شعراء العصر العباسي أنفسهم لم يستنبطونها. قد تكون الآثار السلبية لداء تعلم الإنكليزية، من يعرف؟ لكنني أعرف أنك تتقاعس عن نداء الواجب، لن ألومك كثيرا فلديك فقط ثقافة الإنتماء للمبادرات السورية أبديّة الفرض كتلك التي تُرعى من السيدة الأولى شخصيًا. أعرف تمامًا، ولو أن هذا المركز منوطٌ برعاية الرفيقة “كيت” عقيلة المحترم “وليام” لما تردّدت للحظات بالتطوع لخدمة المجتمع البريطاني. هنالك طرق كثيرة للتحايل على قسوة الإنتظار، لكنني أراك دائما لوحدك!. قلت لك لن تستطيع أن تكذب على نفسك أكثر فأنت لست من هنا، ومهما حاولت إظهار النقيض ستبقى كما أنت. غير أنك في الآونة الأخيرة فُتنت بأعمال أبو القاسم الشّابي، ورحت تقرأ على مسامعي بصوت عالي …
أنا كئيب
أنا غريب
كآبتي خالفت نظائرها
غريبة في عالم الحزن
كآبتي فكرة مغردة
مجهولة من مسامع الزمن
لكنني قد سمعت رنّتها.
وبعظمة لسانك قلت: لم تعد تثير حساسيّتي رائحة المشافي، ولن تهزني صورة رأس مقطوع، أو أحشاء خارجة من بطن امرآة، أو حذاء رياضي فيه بقايا قدم كائن بشري. وغابت عن خاطرك أسطورة الحمّامات المقدّسة وخرائها المبارك، التي كانت تعيش بين شقوق جدران الأموي وتحوم في صحنه. بل قلت لي إنك صرت تلعن الساعة التي خلقت فيها هذه المخلوقات الطائرة والوسخة. ثم صرخت بشدّة: أيها الإنكليز لا تكتفوا بمنع إطعام هذه المخلوقات المزعجة بل أبيدوها. فسّر لي كل هذا بعد أن قالت لك تلك الموظفة الرقيقة في مقابلتك الثانية: ماهي ألوان العلم السوري؟ قلت لك سابقا في مقابلة الإقامة، خير الكلام ماقل. ولا داع أن تذكر لها ألوان العلم اللبناني والأردني والتركي. رجاءً أجبني بماذا كنت تفكّر وأنت في المقابلة؟.

لا تقلق سأخبرك: هكذا السّوريون دائمًا، يتكلمون كثيرًا مع أنفسهم التي لا تكف أبدًا عن مصارعتهم، وأنا أحاول شرح معادلة لماذا أتيتُ إلى هنا، وماذا حل بمعشوقتي سعاد، أنسة الرسم في الصف الرابع، وبالصّفقة الطلائعيّة، والفروقات بين صاحب الشعر الأزرق والصوت الأنثوي “جون“ المشرف على مكتب نشاطات الطلّاب الذي لم أستطع أن أميّز جنسه في البداية، وبين صاحب الصوت الفحولي والقاف المزيفة “أبو جمال” المشرف على مكتب آراء الطلاب في (اتحاد الطلبة)، أيّهما الطّبيعي ولماذا؟ أحاول أن أفكّر بنشأة الكون والإنفجار العظيم، وبالسّلاح الكيماوي، وبساطة الفكرة، وما أكثر اللاإنسانية في الإنسان وطيور الواق واق. أفكر بعامل بناء بريطاني بلباسه الكامل مرتديًا خوذة لم يرتدِها بعد شبابنا في حربهم السّرمدية. وبمراهق سوري يتدلّى رأسه العاري من أعلى بناء يتم تشييده بحي الأشرفيّة. والفرق بين لبنانيّي الرابية ولندن. وكيف للإنسان أن يعيش في كهف مظلم مرغمًا، وحين يخرج إلى النور، يتحمس، يفرح، وبالرغم من ذلك يبقى في قلبه بعض الحنين للكهف. هذا عن سير عملية إندماجي الإجبارية في المجتمع، ناهيك عن اللاجئين الأغرار، وجالية سوريّة قديمة قلقة من فكرة سوريّين جدد من غير النخبة. وبالتالي عقوبة السّجن المنفرد أقوى من الإعدام إذا كانت مؤبّدة. وكوني هنا ومن غير النخبة، لا أشتهي حاليًا تجربة الثّانية، بل كنت أقسّم وقتي إلى نصفين قبل أن آتي إلى هنا، نصفٌ أفكّر فيكِ ياحبيبتي، ونصف أحفظ به الشّريط الحدودي بين اليونان وألبانيا، فهكذا فجأة وبدون مقدمات سألتني الموظّفة في المقابلة الثانية: كيف كنت تقضي وقتك الأخير في المملكة المتحدة؟ فقلت لها أقضي وقتي بالتفكير وأقسّمه إلى نصفين، نصفٌ أفكر فيكِ وبالمقابلة ونصف أحفظ به أحرف الجّر والأفعال التركيبيّة، وبالرابط العجيب بين شعارات البعث والأركيلة وفضلها بتوحيد العرب في مقاهي لندن، أثناء النزاعات الكروية بين الإسبانيين، ودهشتي من انضباطهم، فالخاسر والرابح مهما كانت طائفته يدفع الفاتورة في النهاية. ولكن السؤال الذي أثار دهشتي أكثر من الأركيلة هو: من الرئيس في سوريا؟ فبين نصائحك عن خير الكلام ماقل ودل، ورغبتي بالشّرح عن الرئيس، وصمتي للحظات، أعادت الموظّفة سؤالها بطريقة أخرى، ألا تعرف الرئيس السوري؟ أعرفه ولا أعترف به، هذا ما رغبت بقوله، أما ردّي الحقيقي للموظفة كان: نعم أعرفه إنه بشار الأسد، لست مع السّلاح أيا كان، لا أساند الجيش الحر، والكتائب المقاتلة، أريد الإقامة.
فلا مارغريت تاتشر كانت جاهزة لخصخصة رأس الملكة، ولا أنا جاهز للابتعاد عن فتحة البريد من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا. لأشاهد الرجل الذي ثقّفته بالمناهج الدّراسية وشاهدته في الأفلام الامريكية، ليصير لي عن قرب أن أتذوّق شخصية “ماريو” ساعي بريد نيرودا، وهل فعلًا السّوريون يشاركون شعور نيرودا كما صوّره أنطونيو سكارميتا على أنه شعور بالإحتضار. وباستثناء ذلك ليس هنالك ماهو خطير.

أنا ومن مثلي دائما وغالبا ننتظر الأخبار بفارغ الصّبر، ولكن ليست تلك القادمة من الرّقة والرّيف الحلبي. بل القادمة من “الهوم أوفيس” والمركز الطّبي. وفي الأخير، يسألني الطبيب عن طبيعة الكوابيس الكثيرة التي أراها، وأنا أتخيّل نفسي أقول له:
تجمّع السّوريين في تركيا. اللاجئون السّوريون في البلاد الفرنكفونية. مجموعة سوريّين في السّماء، وسوريّون ضمن مستحاثات المتوسّط. أعيش بضاحية لبنان الجنوبيّة. أغرق بقبلات حارة من فتاة شعرها أحمر. غير الكوابيس الكثيرة التي بقيت بصبغتها الوطنية. فأحلم أنني أدوس على جثث مرقّمة، قنّاص يتربّص بي، طائراتٌ تقصف. وأحيانًا أسقطُ من الطابق التّاسع. فما كان مني إلاّ أن اختصرت كل كوابيسي وقلت له: إنّني أرى نفسي مثل جنِّي. هو أعطاني الوصفة الطبيّة وأنا ذهبت إلى الصيدلية. وفي قطار عودتي من المقابلة جلست أفكّر بعارِ الأسئلة، وماهي ألوان علم الإستقلال. وكعادتنا نحن الشرقيون نحبّ التلصّص على الآخرين، “حتى الأشخاص الجيّدون يفعلون أشياء سيئة” جملة سرقتها من على غلاف رواية إنكليزية سميكة الصفحات، تقرأها عجوز في المقعد المقابل لي. من منا لم يرتكب أشياء سيّئة؟ رحت أسأل نفسي، ونظرات الركاب. حتى الأشخاص السّيئون يفعلون أشياء جيّدة. فلا التحرر إلحاد ولا الأخلاق إيمان، الانسان هكذا لديه الرغبة دائمًا بتقرير مصيره، الموت بطلب الشهادة، أو الإنتحار، أو العيش بعيدًا بسلام. لا يقبل الإنسان وأنا بأن يقرر لنا انسانٌ مثلنا العيش أو الموت لذلك تؤمن الغالبيّة بما قدّر الله. وهل من اختلاف بين السوريتين نجلاء الوزّة، وزنوبيا الملكة؟ رحت أحلم كالصبي اليائس متمنيا أن يضلّ القطار طريقه إلى المنزل فأبقى في الخارج، لأعود وأعيش حياة الحائر.

«وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرًا».
أعلينا أن نستبدل بلادنا ببلادٍ أخرى، أم علينا ألا نسافر، فالأرض اذا تركها أهلها ماتت! أم أن محمود درويش يكذب؟
نعيش في المهجر ويلزمنا أشياء كثيرة لا توجد إلاّ في الوطن ونعيش في الوطن ويلزمنا أشياء كثيرة لا توجد إلاّ في المهجر. ربما الحياة على الطّريق قد تكون كخدر، هذا ما كان معي في القطار، أمّا في غرفتي لم يكن معي أحد، كان معي قلقي ومرارة الإنتظار، عندما اتصل بي المحامي ليخبرني عن صدور الإقامة، لتدور بي الأحداث كدوّامة، من مقيم أصبح يتمتع بحقوق كثيرة كالمواطن البريطاني لتعود بي إلى الوراء. وأنا أنظر إلى شرطة الحدود، وهم يسوقونني إلى غرفة التبصيم، ببلاهة طفل مستسلم لما يجري.

الصورة: مروان قصّاب باشي

عن محمد شبيب

محمد شبيب
كاتب سوري يدرس في كلية الإعلام, ينشر في الصحافة الالكترونية.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.